عندما نعود بالذاكرة إلى أيام الزمن الجميل، تتشابك صور الزيارات العائلية مع أصوات الزحمة في البيوت. هذه الصورة الدافئة لطالما شكّلت أحد أعمدة الحياة الاجتماعية في
لبنان . فـ"البيت المفتوح" كان رمزًا للكرم، والضيوف جزء من
يوميات العائلة ، من دون موعد مسبق ولا حساب للتكاليف. اليوم، تبدو هذه الصورة وكأنها تنتمي إلى زمن آخر. أبواب لا تُفتح إلا نادرًا، ومواعيد تُنسّق بدقة، وسؤال بات يُطرح بهمس: هل انتهت ثقافة الزيارات في لبنان؟
لم تعد الزيارة حدثًا بسيطًا خاصة منذ زمن جائحة
كورونا ، التي رسّخت ثقافة التباعد، وفرضت حدودًا جديدة على فكرة التجمّع. ورغم انحسار الخطر الصحي، بقيت العادات الجديدة راسخة، وكأن الخوف تحوّل إلى نمط حياة، ومع هذا النمط تباعدت العلاقات الاجتماعية.
فالشباب اليوم لا يرون في الزيارة المنزلية ضرورة اجتماعية. العلاقات تُدار عبر الهاتف، اللقاءات تُحدّد في المقاهي، والمناسبات تُختصر. هذا التحوّل لا يعكس قلة اهتمام، بل تغييرًا في مفهوم القرب والتواصل، حيث أصبح الحضور الرقمي بديلًا مقبولًا عن الوجود الجسدي. فكثيرون باتوا يفضّلون اللقاء خارج المنزل، أو الاكتفاء باتصال هاتفي ورسالة صوتية تفي بالغرض.
كما أنه بالنسبة للكثيرين، تغيّر دور البيت اللبناني. لم يعد فقط مكانًا للراحة أو الاجتماع، بل أصبح مكتبًا، صفًا مدرسيًا، وأحيانًا مصدر توتر دائم. في هذا السياق، باتت الخصوصية حاجة نادرة، وأي زيارة غير متوقعة تُعتبر اقتحامًا للمساحة الشخصية أكثر منها تعبيرًا عن محبة.
رغم كل ذلك، لا يمكن القول إن ثقافة الزيارات اختفت بالكامل. هي لم تمت، بل تغيّرت. الزيارات اليوم أقل عددًا، أكثر اختيارًا، وأعمق معنى. لم تعد عادة يومية، بل مناسبة محسوبة، ما جعلها تحمل قيمة مختلفة حين تحصل.
البيت بلا ضيوف لا يعني بالضرورة مجتمعًا بلا تواصل. ما نشهده في لبنان هو إعادة صياغة للعلاقات الاجتماعية تحت ضغط الواقع. وبين باب يُغلق وآخر يُفتح بحذر، تبقى الزيارة فعلًا إنسانيًا وعاطفيا يبحث عن صيغة جديدة، تناسب زمنًا تغيّرت فيه الأولويات، لكن لم تختفِ فيه الحاجة إلى القرب.