يتكثف الحراك
الأوروبي باتجاه
لبنان في مرحلة شديدة الخطورة، لا يقتصر فيها الاهتمام على درء حرب جديدة قد تندلع على الجبهة الجنوبية، بل يتجاوزها إلى مقاربة أكثر عمقًا تتصل بما بعد انتهاء ولاية قوات الطوارئ الدولية الموقتة العاملة في جنوب لبنان (اليونيفيل)، واحتمالات الفراغ الأمني والسياسي الذي قد ينشأ في حال عدم التوصل إلى صيغة بديلة تحفظ الاستقرار وتمنع الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة.
وفي هذا السياق كتب داوود رمال في " نداء الوطن":هذا الحراك، وفق المعطيات المتداولة في الأوساط الدبلوماسية، بات يأخذ طابعًا عمليًا، ويبحث في خيارات واقعية قابلة للتنفيذ، بعيدًا من التنظير أو انتظار التسويات الكبرى.
في هذا السياق، تبرز أفكار أوروبية جدّية حول إمكان تشكيل قوة عسكرية تعمل تحت علم
الاتحاد الأوروبي ، أو إنشاء قوة متعددة الجنسيات خارج الإطار الأممي التقليدي، ولكن بتفاهمات واضحة مع الدولة
اللبنانية ، وباتفاقات ثنائية تنظم المهام والصلاحيات والانتشار. اللافت في هذه الطروحات، أنها لا تستنسخ تجربة "اليونيفيل" بعديدها الحالي، بل تميل إلى نموذج أقل عددًا وأكثر تخصّصًا، يركّز على الدعم والمواكبة والمراقبة، ويستند إلى التنسيق الوثيق مع
الجيش اللبناني ، باعتباره الجهة الشرعية الوحيدة المخوّلة حفظ الأمن وبسط سلطة الدولة.
حتى الآن، أبدت دول أوروبية وازنة رغبتها الصريحة في البقاء في لبنان بعد انتهاء عمل "اليونيفيل"، وفي طليعتها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، وهي دول تمتلك خبرة ميدانية طويلة في الجنوب اللبناني، ولديها قنوات مفتوحة مع مختلف الأطراف.
في المقابل، عبّرت ألمانيا عن استعدادها للاستمرار، ولكن من زاوية بحرية، ما يعكس توجهًا أوروبيًا نحو تنويع أشكال الحضور العسكري، وعدم حصره بالانتشار البري التقليدي..
بقاء قوات عسكرية أوروبية في لبنان، حتى ولو خارج المظلّة الأممية، الذي يُقرأ كإجراء أمني، هو أيضًا رسالة سياسية بامتياز. فهو يعكس مستوى الثقة الدولية بالجيش اللبناني وقدرته على الشراكة والمسؤولية، ويؤمّن مظلة ردع دولية غير مباشرة تساهم في تثبيت الهدوء في الجنوب، وتحدّ من احتمالات الانفجار..
إلى جانب هذا البعد الأوروبي، يبرز عامل روحي ــ دبلوماسي لا يقل أهمية، يتمثل بالتأثير الذي أحدثته زيارة قداسة الحبر الأعظم البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان. فوفق المعلومات المتداولة، كان لهذه الزيارة وقع كبير في خفض منسوب التهويل والتهديد بشن حرب إسرائيلية جديدة على لبنان. الكرسي الرسولي، المعروف بدبلوماسيته الصامتة، لم يتوقف عند الرمزية المعنوية للزيارة، بل تابع تحرّكه بهدوء مع دول القرار المؤثرة، بهدف الدفع نحو الحلول السلمية وتشجيع مسارات التفاوض ومنع الانزلاق إلى مواجهة مدمّرة.
في موازاة ذلك، تنقل أوساط سياسية لبنانية ما قاله زائر غربي رفيع المستوى إلى
بيروت ، سبق أن التقى مسؤولين إسرائيليين، ومفاده أن المؤسسة العسكرية
الإسرائيلية نفسها لا تبدو متحمّسة للدخول في حرب جديدة، لا في لبنان ولا ضد
إيران . الجيش
الإسرائيلي ، بحسب هذه القراءة، منهك بعد أكثر من سنتين من القتال على جبهات متعددة، ويعاني من استنزاف بشري كبير، ويحتاج إلى إعادة بناء قدراته البشرية واللوجستية قبل التفكير في مغامرة عسكرية واسعة..من هنا، يبدو المشهد الإقليمي واللبناني مفتوحًا على سباق بين مسارين؛ مسار
أوروبي ــ دولي يسعى إلى تثبيت الاستقرار ومنع الفراغ الأمني في الجنوب عبر صيغ جديدة لما بعد "اليونيفيل"، ومسار تصعيدي تحكمه حسابات داخلية إسرائيلية ضيقة.