في خضم مشهد إقليمي بالغ التعقيد، تبدو أولويات
حزب الله اليوم أكثر ميلاً إلى إدارة المخاطر وتخفيف ساحات الاشتباك، لا إلى توسيعها. فالحزب، وفق معطيات المرحلة، أنهى دوره على الساحة
السورية ، ولا يتولى عملياً دعم قوى معارضة للدول العربية، بل يركز على إعادة ضبط علاقاته الإقليمية بما ينسجم مع التحولات الجارية، ومع ما يراه ضرورة لحماية
لبنان واستقراره في مواجهة العدوان
الإسرائيلي المستمر.
ضمن هذا السياق، يبرز الدور المصري بوصفه عاملاً متقدّماً ثم متراجعاً، لكنه لم يسقط من الحسابات. فالمبادرة المصرية المعنية بالحل في لبنان ما زالت قائمة رغم كل الظروف، ومصر لا تزال حريصة على لعب دور يساهم في استقرار لبنان والمنطقة. علاقة حزب الله بالقاهرة توصف بالجيدة، والحزب يعلن انفتاحه على علاقة طبيعية معها، مع التأكيد على ثوابت يعتبرها أولوية، وفي مقدّمها الانسحاب الإسرائيلي واستعادة الأسرى. من جهتها، ترى مصر أنها لعبت دوراً محورياً في غزة، وأنها تمتلك قدرة فريدة على إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع مختلف الأطراف، ولا سيما طهران وتل أبيب. وفي هذا الإطار، جاء الاتصال الهاتفي بين
وزير الخارجية والهجرة وشؤون المصريين بالخارج بدر عبد العاطي ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، لمناقشة سبل تعزيز العلاقات الثنائية وتبادل الرؤى حول
القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، بما يعكس إدراكاً متبادلاً لأهمية التنسيق في مرحلة شديدة الحساسية.
إعلان حزب الله تطلّعه إلى علاقة طبيعية مع مصر، والاستفادة من حضورها في تحصين موقف لبنان في مواجهة العدوان الإسرائيلي، لا ينفصل عن مقاربة أوسع يعيد الحزب من خلالها ترتيب شبكة علاقاته الإقليمية. فإلى جانب مصر، يعمل الحزب على إعادة فتح قنوات مع تركيا والسعودية. وفي الحالة
السعودية ، يبرز الدور الإيراني، ولا سيما دور أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني، في تهيئة المناخات، وإن كانت الأمور لم تتبلور بعد بشكل نهائي. فالأجواء توصف بالإيجابية، لكنها تحتاج إلى وقت أطول مما يظنه البعض، في ظل تراكمات سياسية عميقة وحساسية عالية في مقاربة الملفات.
اللافت في هذا السياق، الرسائل التي بعث بها السفير السعودي في
بيروت وليد البخاري خلال الفترة الأخيرة إلى المكوّن الشيعي، ولا سيما عبر زيارته رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب، حيث شدد على أنه "لا خصومة للمملكة مع المكوّن الشيعي في لبنان ولا في الخارج"، وعلى "عدم استبعاد أي مكوّن لبناني في الدولة، وهذه هي روحية اتفاق الطائف". هذه الرسائل، إلى جانب النفي السعودي لاستهداف حركة أمل وحزب الله، توحي بأن مسار التهدئة ممكن، لكنه مسار بطيء يتطلب صبراً وإجراءات متبادلة لبناء الثقة.
وعلى الخط التركي، شارك حزب الله، عبر مسؤول العلاقات الدولية فيه عمار الموسوي، في مؤتمر حول القدس في تركيا، وعقد وفد من الحزب لقاءات مع مسؤولين أتراك. هذا الانفتاح لا يقتصر على البعد الرمزي، بل يتقاطع مع معطيات عن دور
تركي محتمل في خفض التوتر بين حزب الله وسوريا، في ظل تواصل بدأ بين الحزب والنظام السوري، وسعي مشترك إلى تجفيف عناصر التوتر. وفي هذا الإطار، لا تستبعد لقاءات أو قنوات تواصل غير مباشرة مع "هيئة تحرير الشام"، ضمن مقاربة براغماتية تهدف إلى منع التصعيد لا إلى عقد تحالفات.
ومما لا شك فيه أن العلاقة بين إيران وتركيا تشهد بدورها إشارات إيجابية متبادلة، حيث تشيد طهران بدور أنقرة، وتبادلها الأخيرة الإشادة، في وقت تشعر فيه تركيا بقلق متزايد من السياسات
الإسرائيلية وتداعياتها الإقليمية. كما أن العلاقة بين حزب الله وجماعة الإخوان المسلمين لم تصل إلى حد التحالف، لكنها تتسم بوجود قنوات تواصل، إلى جانب اتصالات محدودة مع بعض الجماعات المتشددة، في إطار إدارة التناقضات ومحاولة احتواء الأخطار.
في المحصلة، يعكس هذا المشهد شبكة معقدة من التحركات والاتصالات، عنوانها الأساسي إعادة التموضع لا الانكفاء، وضبط الإيقاع لا كسر التوازنات. فحزب الله، ومعه أطراف إقليمية أساسية، يتحركون في مساحة رمادية بين التصعيد والتهدئة، في انتظار ما ستؤول إليه موازين القوى والتحولات الكبرى في المنطقة. وفي هذا الانتظار، يبدو أن الرهان المشترك، ولو بدرجات متفاوتة، هو على تقليص ساحات الصدام المفتوحة، علماً أن
إسرائيل تفضّل بقاء الوضعين الأمني والعسكري على حالهما في المنطقة، مع الإبقاء عليها في حالة حرب دائمة أو شبه دائمة، بما يتيح لها هامشاً واسعاً للمناورة والتدخل في أي دولة تشاء وفي التوقيت الذي تراه مناسباً. فاستمرار التوتر، من وجهة نظرها، يشكّل أداة استراتيجية تسمح بإعادة إنتاج التفوّق، وتبرير السياسات العدوانية، ومنع تشكّل توازنات إقليمية مستقرة قد تقيّد قدرتها على فرض الوقائع بالقوة أو ابتزاز الخصوم سياسياً وأمنياً.