لم تكن جريمة الضاحية الجنوبية، حيث قُتلت زوجة على يد زوجها الذي كان معروفًا بنشاطه على “تيك توك” قبل أن ينهي حياته، مجرّد خبر عابر؛ بل جاءت كجرس إنذار جديد في سلسلة وقائع باتت تعكس هشاشة داخل البيوت لا تقلّ قسوة عن هشاشة الاقتصاد. في لبنان ، تتقاطع اليوم أزمات المعيشة والضغط النفسي والتفكك الاجتماعي في نقطة خطرة: ارتفاع إشارات العنف داخل الأسرة، وتنامي مؤشرات اليأس التي تصل عند بعض الناس إلى التفكير بالانتحار أو الإقدام عليه. وما يجعل الصورة أكثر قسوة هو أن هذه الوقائع لا تأتي منفصلة؛ إنها تتحرك داخل البيئة نفسها: بلدٌ وصفه البنك الدولي بأنه يغرق في واحدة من أشدّ الأزمات الاقتصادية عالميًا منذ منتصف القرن التاسع عشر.
وفق الأرقام، سُجّلت 168 حالة انتحار في عام 2023 بحسب بيانات
قوى الأمن الداخلي ، بزيادة 21.7% عن 2022 و46% عن 2021، مع تنبيه رسمي إلى صعوبة الجزم إن كان الارتفاع ناتجًا عن زيادة في الحالات أو تحسّن في الإبلاغ والتوثيق.
وتشير الأرقام أكثر إلى واقع ضاغط على الأرض، لدرجة أنها تقدّم مؤشرات صادمة: شخص يفقد حياته بالانتحار كل نحو يومين، ومحاولة انتحار تُسجَّل بمعدل مرتفع مقارنة بحجم المجتمع وقدرات الاستجابة.
لماذا يتقدّم العنف… ويتوسّع اليأس؟
الشرح لا يكمن في "حادثة" أو "شخصية" بقدر ما يكمن في تراكم طويل، عبارة عن ضغوط مادية تُترجم توترًا داخل المنزل، وانسداد أفق يُترجم اكتئابًا أو قلقًا أو انفجارًا. دراسة منشورة عام 2025 عن "الصحة النفسية خلال الأزمة الاقتصادية
اللبنانية " تخلص إلى ارتباط واضح بين تدهور الرفاه المالي وارتفاع مؤشرات القلق والاكتئاب، بما يعني أن المال هنا ليس تفصيلًا ثانويًا بل عامل ضغط مباشر على المزاج والسلوك.
وفي خط موازٍ، تُظهر تقارير العنف القائم على النوع الاجتماعي أن عنف الشريك والعنف الأسري يبقيان من أكثر الأنماط شيوعًا، وأنهما يتفاقمان في بيئات الضغط الاقتصادي والنزوح والهشاشة. كما وثّقت جمعيات محلية معنية بحماية النساء ازدياد الطلب على خدماتها خلال سنوات الأزمة، بما يشي بأن “العنف” ليس استثناءً بل بات جزءًا من أزمة أوسع تتعمّق مع تراجع الردع والحماية وشحّ الخدمات. ففي جريمة الضاحية، أُعيد تداول وصف "تيكتوكر" على نحو مكثّف، كأن المنصّة هي العنوان. لكن الأخطر أن تتحول المنصات إلى مساحة "تطبيع" مع نزاعات منزلية تُعرض علنًا، أو إلى مسرح ضغطٍ اجتماعي يزيد الاحتقان، فيما تبقى المعالجة المؤسساتية بطيئة.
ما الذي ينقص لبنان فعلًا؟
ليس المطلوب خطابات عامة عن "الصحة النفسية" بقدر ما المطلوب مسار عملي يتضمن تسهيل الوصول للعلاج والدعم النفسي بكلفة مقبولة، وربطه بنظام إحالة واضح. بالاضافة إلى تعزيز آليات حماية النساء داخل المنزل وتفعيل الاستجابة السريعة للعنف الأسري، لأن الوقاية هنا ليست رفاهية بل إنقاذ حياة. بالاضافة إلى سياسات اجتماعية تخفف الضغط الاقتصادي لأن الأرقام والأبحاث تشير إلى أن الانهيار المالي ليس خلفية محايدة، بل محرك يومي للتوتر والاضطراب.
في العمق، لا يمكن قراءة هذه الوقائع بوصفها "انفلاتًا فرديًا" فقط، لأنّ تكرارها يشي بتحوّل اجتماعي خطير وهو انتقال الضغوط من المجال العام إلى المجال الخاص، حيث تتحوّل الأسرة من مساحة أمان إلى ساحة اشتباك. وحين تتآكل القدرة على التخطيط للغد، وتصبح تفاصيل الحياة اليومية رهينة القلق المالي والديون والخوف من الفقد، تتراجع مهارات الاحتمال والتواصل، ويعلو منسوب العدوانية أو الانسحاب. هنا، العنف لا يولد فجأة، بل يتغذّى من تراكم الإحباط وغياب شبكات الدعم وندرة "صمامات الأمان" التي كانت تمتص الصدمات في السابق، من العائلة الممتدة إلى المدرسة إلى الحي، وكلها بدورها أنهكتها الأزمة.
والأخطر أنّ لبنان يبدو كمن يتعامل مع هذا المسار كأنه "
أخبار متفرقة"، بينما هو مؤشر على أزمة صحة عامة لا تقلّ تهديدًا عن أزمات الدواء والكهرباء. الارتفاع في أرقام الانتحار وتزايد الإشارات إلى العنف الأسري يعنيان أنّ المجتمع يدفع ثمن الانهيار مرتين: مرة في الجيب ومرة في الرأس. من دون تدخلات جدية على مستوى الوقاية والرعاية والحماية، سيبقى العلاج متأخرًا دائمًا، بعد وقوع الضرر، وستتحول المنصات الاجتماعية من مرآة تكشف العطب إلى مسرح يكرّسه عبر التطبيع والتهويل والتشهير، فيما الضحية الحقيقية تبقى في الظل.. بيتٌ يتصدّع بصمت، وأشخاص ينهارون بلا يد تُمسكهم قبل السقوط.