ما جرى في جلسة مجلس النواب أمس لم يكن حدثاً تشريعياً عادياً، بل معركة سياسية مكتملة العناصر انتهت بفوز واضح لرئيس المجلس
نبيه برّي . إذ إن انعقاد الجلسة بحد ذاته شكل رسالة بأن ميزان القوى داخل البرلمان لا يزال يسمح له بإدارة اللعبة التشريعية والتحكم بتوقيتها، رغم محاولات التعطيل والانسحاب. ربح معركة النصاب لم يكن تفصيلاً إجرائياً، بل تثبيتاً لدور بري كضابط إيقاع قادر على جمع الحد الأدنى اللازم لتمرير ما يريده عندما تتقاطع المصالح أو تفرض الضرورات.
الخطوة الأكثر دلالة تمثلت في تحصين القوانين عبر إقفال محضر الجلسة قبل فقدان النصاب، وهي خطوة سياسية محسوبة بدقة حولت القوانين المقرة إلى نافذة حكماً، وأقفلت الباب أمام أي محاولة لاحقة لإسقاطها أو التشكيك بشرعيتها. وبهذا المعنى، لم يكتف رئيس المجلس بإدارة الجلسة، بل أدار نتائجها مسبقاً، وأفرغ أي اعتراض لاحق من مفاعيله العملية.
أما تمرير قرض الجنوب بقيمة 250 مليون دولار، فشكل جوهر الجلسة سياسياً، كونه البند الأهم بالنسبة إلى "الثنائي الشيعي"، ما يجعل الجلسة عملياً جلسة إنجاز الهدف، حيث تحقق المطلوب وانتهت المعركة قبل أن تبدأ فصول تعطيلها. في المقابل، فشلت المعارضة في تحويل اعتراضها السياسي إلى فعل تعطيل فعلي، واكتفت بالاعتراض الإعلامي والرمزي.
غير أن لحظة فقدان النصاب لاحقاً لم تمرّ من دون تحميل مسؤوليات سياسية، إذ نقل أحد نواب الوفاء للمقاومة أن رئيس الحكومة نواف سلام كان العامل الحاسم في تطيير النصاب، مشيراً إلى أن خروجه من القاعة تبعه عدد من النواب، ما أدّى إلى فقدان النصاب ورفع الجلسة. ووفق رواية هذا النائب، فإن الجلسة سقطت تحديداً عند الوصول إلى بند قانون إخضاع المتعاقدين في وزارة الإعلام لشرعة التقاعد، وهو قانون يعد بحكم المجمد منذ جلسة أيلول الماضي التي فقدت نصابها أيضاً على خلفية الخلاف حول اقتراع المغتربين. وأعاد هذا التفصيل التذكير بأن بعض القوانين العالقة، رغم طابعها الاجتماعي والإداري، ما زالت رهينة الاشتباك السياسي، وتستخدم كنقاط كسر توازن داخل الجلسات التشريعية.
في موازاة ذلك، حملت مشاركة كتلة الاعتدال الوطني دلالة إضافية، إذ عكست أنها لم تتلقّ، بحسب مصادر سياسية، أي اعتراض
سعودي على المشاركة، ما يشير إلى أن هذه الخطوة جاءت ضمن هامش إقليمي غير معارض، أو على الأقل غير مستفز، وتعكس مقاربة براغماتية تفضل تسيير المؤسسات على تسجيل المواقف. فالاعتدال واللقاء الديمقراطي، رغم تقاطعهما مع معارضي بري في مسألة اقتراع المغتربين من أماكن إقامتهم، يختلفان عن حزب القوات
اللبنانية في تمسكهما بعدم تعطيل الجلسات المخصّصة للتشريع. وهذه المشاركة تتقاطع أيضاً مع مناخ سياسي داخلي جديد يقوم على تفاهم واضح بين رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس مجلس النواب
نبيه بري على تفعيل عمل المؤسسات، ما يشي بحالة من التناغم بين الرئاستين، ولو ضمن حدود المصالح المتبادلة، لتفادي الشلل الكامل وإعادة تشغيل الحد الأدنى من الحياة الدستورية.
في المقابل، كان قانون الانتخاب الغائب الأكبر عن الجلسة، وغيابه لم يكن صدفة، بل مؤشراً إلى أن ملف الانتخابات لا يزال مؤجلاً عمداً، وأن لا نيّة حقيقية لفتحه في هذا التوقيت. وهنا تطرح الجلسة احتمال أن ما جرى ليس سوى بروفة سياسية، ونموذجاً يمكن استخدامه لاحقاً لتأمين تشريع الضرورة أو لتبرير تأجيل الاستحقاق الانتخابي تحت عناوين تقنية أو توافقية. فقد أشار
نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب من مجلس النواب إلى أنه في حال اعتماد خيار إعادة فتح المهل أمام المغتربين للتسجيل على لوائح الاقتراع لانتخاب النواب الـ128، فإن ذلك سيترتب عليه حكماً إقرار تمديد تقني لولاية مجلس النواب.
ويمكن القول إن النصاب النيابي تحول إلى ورقة سياسية تستخدم تبعاً لموقع كل طرف من الاستحقاق الانتخابي، ما يفرض على الكتل النيابية مسؤولية البحث عن تسوية تشريعية تفصل قانون الانتخابات عن مناخ الاشتباك الحاد الذي تصاعد أخيراً، ولا سيما مع الحملات التي شنها رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على رئيس المجلس نبيه بري، في سياق رفع السقف السياسي والدفع باتجاه اعتماد اقتراع المغتربين للنواب الـ128 في مواجهة خصومه. وفي هذا الإطار يأتي المؤتمر الصحافي الذي يعقده جعجع اليوم في معراب لتكريس موقفه من التطورات السياسية، ولا سيما ملف الانتخابات النيابية، في ظل احتدام السجال حولها.
وبهذا المعنى، شكلت الجلسة اختبار قوة ورسالة واضحة في آن واحد، الرئيس بري ما زال قادراً على فرض الإيقاع داخل البرلمان، والتفاهم الظرفي على النصاب أمس مع كتلة الاعتدال واللقاء الديمقراطي وتكتل
لبنان القوي قد يتحول غداً إلى أداة لتمرير خيارات أكبر، وعلى رأسها التحكم بمصير الاستحقاق الانتخابي، في ظل معارضة عاجزة عن كسر المعادلة، ومشهد سياسي يميل إلى إدارة الاشتباك بدل حسمه.