تكشف تقييمات ميدانية حديثة لوضع الأسر الأكثر هشاشة في لبنان ، وخصوصاً في البقاع وعكار وبعض أحياء بيروت وجبل لبنان، عن واقع مقلق يتجاوز مسألة الغلاء وارتفاع الأسعار إلى أزمة أعمق تتعلّق بنوعية الطعام، ومن يحصل عليه داخل الأسرة. فخلف الرفوف المكدّسة بالمواد الغذائية في المتاجر، هناك مئات العائلات التي تعيش على حدّ الكفاف، وأطفال ونساء لا يصلهم إلا الحد الأدنى من الغذاء الضروري للنمو والصحة.
التقديرات تشير إلى أنّ جزءاً محدوداً فقط من هذه الأسر يمكن القول إنّ غذاءها اليومي "مقبول"، فيما تعيش الغالبية بين فقر غذائي واضح أو على حافته. الموائد تعتمد في معظم الأيام على الخبز والحبوب والزيوت والسكّر، مع حضور خجول للحوم والبقوليات والخضار والفواكه. بمعنى آخر، السعرات الحرارية متاحة نسبياً، لكن القيمة الغذائية ضعيفة، ما يخلق فجوة بين "الشبع
الظاهري " واحتياجات الجسم الفعلية.
الأخطر هو ما تكشفه سلوكيات التكيّف مع الأزمة. كثير من العائلات باتت تخفّض عدد الوجبات، تقلّص حصص الطعام، تشتري بالدَّيْن، أو يتنازل الكبار عن حصّتهم لصالح الأطفال. هذه ليست قرارات ظرفية ليوم أو يومين، بل تحوّلت إلى نمط حياة في عدد لا يستهان به من البيوت، ما يعني أن القدرة على الصمود تتآكل تدريجياً، وأنّ أي صدمة إضافية في الأسعار أو المساعدات قد تدفع شرائح كاملة إلى مستوى أعلى من الجوع الفعلي.
الأرقام التقريبية التي تخرج من هذه التقييمات تعكس صورة "صادمة" عن وضع الأطفال دون الخامسة: الغالبية الساحقة منهم لا تحصل على تنوّع غذائي كافٍ خلال اليوم، وعدد قليل فقط يأكل أصنافاً متعدّدة من المجموعات الغذائية الأساسية. وضع النساء الشابات، خصوصاً الحوامل والمرضعات، لا يبدو أفضل بكثير. نسبة ضئيلة منهنّ تصل إلى الحد الأدنى المطلوب من التنوع الغذائي، فيما تعيش البقية على وجبات فقيرة بالبروتينات والفيتامينات والمعادن، ما يهدّد صحتهن وصحّة الأجنّة والرضّع في المدى المتوسط والطويل.
وبحسب أرقام تقرير "خط الأساس للأمن الغذائي والتغذية" الذي شمل أكثر من 700 عائلة، 97% من الأطفال بين 6 و59 شهراً يعيشون في فقر غذائي "متوسط أو شديد"، ولا يحصل سوى 3% منهم على الحد الأدنى من التنوع الغذائي اليومي.
أما
النساء في عمر 19 إلى 49 عاماً، فلا تتجاوز نسبة اللواتي يحقّقن هذا الحدّ 8% فقط، ما يعني أن 92% من النساء أيضاً في فقر غذائي واضح.
هذه الأرقام تعني عملياً أن صحّة الأمهات والأجنّة والرضّع مهدَّدة على المدى المتوسط، حتى لو لم تظهر فوراً في نسب مرتفعة من سوء التغذية الحاد.
في الخلاصة، لبنان لا يواجه فقط أزمة "وصول إلى الطعام"، بل أزمة أعمق تتعلّق بنوعية هذا الطعام ومن يأكله داخل الأسرة. فالأطفال والنساء يتحمّلون العبء الأكبر، ومناطق الاطراف كعكار والبقاع تدفع الثمن الأعلى. وإذا لم تُترجَم هذه المعطيات إلى سياسات أوسع للحماية الاجتماعية، وتوسيع برامج الدعم الغذائي والنقدي المراعي للتغذية، فإن الجوع الصامت الذي ترسمه الأرقام اليوم قد يتحوّل غداً إلى أزمة صحية ووطنية مفتوحة على كل الاحتمالات.