تبدو المنطقة اليوم أمام مرحلة مختلفة تمامًا عمّا كانت عليه قبل أشهر قليلة فقط. المشهد الإقليمي يتحرك بسرعة غير مألوفة، والتطورات المتلاحقة تترك أثرًا مباشرًا على معظم الدول والملفات، من الصراع العربي-الإسرائيلي وصولًا إلى التوازنات بين القوى الإقليمية الكبرى.
وفي وسط هذا الحراك المتسارع، يبرز البيان الثلاثي الذي صدر عن
السعودية وإيران والصين، والذي حمل مؤشرات غير عادية حول طبيعة التواصل بين الرياض وطهران، وحجم التقدم الذي تحقق بعيدًا عن الضجيج الإعلامي المعتاد.
البيان بحدّ ذاته لم يكن مجرد موقف بروتوكولي، بل بدا كأنه نتيجة سلسلة من الخطوات التراكمية التي قطعتها العاصمتان في الأشهر الماضية. فالعلاقة بين السعودية وإيران لم تعد عالقة عند حدود التهدئة العامة، بل انتقلت إلى مساحة أوسع تتعلق بترسيم تفاهمات في أكثر من ملف إقليمي، خصوصًا تلك المرتبطة بالساحات التي كانت تُعتبر ساحات صراع مفتوح بين الطرفين. وهذا التحول لا يمكن فصله عن التحولات على مستوى المنطقة، ولا عن رغبة
إيران في تخفيف الأعباء التي تفرضها المواجهات المستمرة على أكثر من خط.
وانعكاس هذا التقارب على الساحة
اللبنانية يبدو محتومًا، سواء في اتجاه تخفيف التوتر أو في اتجاه إنتاج مقاربة جديدة لطبيعة العلاقة بين الرياض وحزب الله حتى. فالتواصل غير المباشر بين الطرفين كان قائمًا منذ مدة، لكن دخول
إيران على الخط، وبطريقة منسقة وهادئة، يشير إلى أن المرحلة المقبلة قد تحمل صيغة أكثر جدية، وربما أكثر تأثيرًا، تتجاوز حدود الرسائل التقليدية وتفتح الباب أمام تفاهمات أوسع ضمن ترتيب إقليمي جديد.
لكن اللافت في المشهد لا يقتصر على العلاقة السعودية-الإيرانية، بل يشمل أيضًا الإشارات المتزايدة عن تقدم واضح في التواصل بين تركيا وحزب الله. فاللقاءات التي تعقد بعيدًا عن الإعلام، سواء كانت على مستوى سياسي أو أمني أو حتى ميداني، تدل على رغبة تركية في تثبيت حضورها ضمن معادلة النفوذ في المشرق، خصوصًا بعد تراجع الاهتمام الدولي ببعض الملفات التي كانت أنقرة تعتبر نفسها لاعبًا أساسيًا فيها. ومن جهة أخرى، يبدو الحزب مهتمًا بفهم المقاربة التركية الجديدة، خصوصًا في ظل الصدام المفتوح بين تركيا وإسرائيل، وما يحمله ذلك من تقاطعات مصلحية مع "محور المقاومة".
وبالتوازي مع كل ما سبق، يظهر التحول الواضح في الخطاب السوري تجاه
إسرائيل ، وهو تحوّل يعكس قراءة دمشق للمرحلة المقبلة. فالنبرة تغيّرت، والتعاطي مع التطورات
الإسرائيلية لم يعد محصورًا التجاهل السياسي، بل بات الحديث أقرب إلى إعادة صياغة موقف ينسجم مع التحالفات الجديدة ومع الحسابات التي فرضتها الحرب المستمرة على غزة والجنوب اللبناني.
كل هذه المسارات، مجتمعة، توحي بأن المنطقة مقبلة على إعادة رسم توازنات عميقة، وأن ما يجري اليوم ليس تفاصيل عابرة بل مقدمات فعلية لمرحلة سياسية مختلفة.