كتب وفيق قانصوه في" الاخبار": التسريبات التي وصلت إلى بيروت مؤخراً حول امتعاض أنقرة من اندفاع لبنان نحو توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع قبرص، من دون مراعاة الواقع القائم في الجزيرة المنقسمة، تحوّلت إلى موقف رسمي تركي . إذ إن مسارعة لبنان إلى توقيع الاتفاق، متجاهلاً الملاحظات التركية، دفعت أنقرة إلى إصدار بيان استنكرت فيه الخطوة اللبنانية ، معتبرةً أنها تتجاهل حقوق الشطر التركي من الجزيرة.
وعلم أن المسؤولين الأتراك يدرسون اتخاذ سلسلة إجراءات تعكس مستوى الاستياء، وسط مخاوف من انعكاسات سلبية على العلاقات اللبنانية - التركية. وترى أنقرة أن لبنان، من خلال هذه الخطوة، زَجَّ بنفسه في صراع إقليمي أوسع لا مصلحة له فيه، في إشارة إلى مشروع ترعاه
إسرائيل بدعم أميركي وأوروبي، للسيطرة على منابع الغاز في شرق المتوسط بما يخدم تحالفات لا تأخذ في الاعتبار مصالح دول المنطقة.
وقد أصدرت
وزارة الخارجية التركية أمس بياناً عالي النبرة، انتقدت فيه بشدّة توقيع اتفاقية ترسيم الحدود الاقتصادية الخالصة بين لبنان و«إدارة جنوب قبرص الرومية»، معتبرةً أنها خطوة «أُحادية الجانب» تتجاهل القبارصة الأتراك وتمسّ حقوقهم ومصالحهم المشروعة. ودعت المجتمع الدولي، خصوصاً دول المنطقة، إلى عدم دعم ما وصفته بـ«محاولات اغتصاب حقوق القبارصة الأتراك»، مؤكّدة أنها ستواصل، إلى جانب
جمهورية شمال قبرص التركية، «الدفاع بحزم عن حقوق القبارصة الأتراك ومصالحهم».
إلى ذلك، قال مصدر نيابي لبناني رفيع إن «التوقيع هو توقيع بالأحرف الأولى، والاتفاق مع قبرص لا يُعدُّ مُبرماً، ولا وجود قانونياً له شأنه شأن اتفاقية عام 2007». وأكد أن «مجلس النواب لن يتخلّى أو يفوّض صلاحياته الدستورية، وهو الجهة التي تبرم كلّ الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تتعلق بمالية الدولة والمعاهدات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة بسنة».
وأوضح أن «عدداً من النواب من اصطفافات حزبية مختلفة سيلجأون إلى استخدام كلّ الوسائل المشروعة لتصحيح الفضيحة الدستورية، بما في ذلك تقديم الطعون ومُساءلة الحكومة واستجوابها»، مشيراً إلى أن «لجنة الأشغال النيابية دعت إلى اجتماع الخميس المقبل بحضور وزير الأشغال العامة لمناقشة قانونية ودستورية إبرام الاتفاقية»، وسط دعوات لاعتبارها اتفاقية غير نافذة.
وأشار المصدر إلى أن «هناك عدداً مهماً من الظروف ذات الصلة في منهجية الإنصاف الثلاثية المعتمدة في الترسيم البحري كان ينبغي الأخذ بها، منها عدم سيادة جمهورية قبرص (اليونانية) على شمالها، أي قبرص التركية»، مشدداً في الوقت نفسه على رفض «الاصطفاف إلى جانب أيّ طرف في الخلاف التركي - القبرصي»، وداعياً إلى «الحياد الإيجابي والاحتكام إلى المحكمة الدولية لقانون البحار، التي سيكون حكمها مُلزِماً للجميع، لتجنّب إشكالات دبلوماسية حادّة نحن في غنى عنها».
الجدير ذكره أن نحو 37% من مساحة الجزيرة تقع خارج سيطرة الحكومة القبرصية، وتخضع منذ الانقسام لإدارة منفصلة، ويقطنها أكثر من ربع سكان الجزيرة.
ورغم أن الجمهورية القبرصية (الجنوبية) هي الجهة المُعترف بها دولياً، يرى قسم من السكان القبارصة غير اليونانيين أن توقيع اتفاقية معها قد يساهم في حرمانهم من عائدات الثروات البحرية. وتشدد مصادر سياسية لبنانية على أن «لا مصلحة للبنان في استعداء الجانب التركي عبر توقيع الاتفاقية مع الجانب القبرصي».
وكتب داوول رمال في "نداء الوطن": تقاطعت الأسئلة في بيروت عقب القمة اللبنانية ـ القبرصية بين الرئيسين العماد جوزاف عون ونيكوس خريستودوليدس، وتكاثرت التحليلات حول ما إذا كانت اتفاقية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة حملت في طياتها تنازلات مبطّنة أو تغييرًا في المقاربة الرسمية اللبنانية، وخصوصًا بعد إحياء ملف الحدود البحرية الغربية. إلّا أن الأجوبة التي توافرت من مصادر معنية بملف الترسيم تؤكّد أن كلّ ما يروّج عن تبديل في المواقف أو إعادة إحياء لاتفاقية 2007 غير الدقيقة قانونيًا هو مجرّد قراءة متسرّعة لا تمت إلى الواقع بصلة، وأن الترسيم الموقع مع قبرص استند حصرًا إلى الأسس القانونية نفسها التي اعتمدها لبنان منذ العام 2011، من دون أي التفاف أو مقايضة أو انزياح عن حقوقه المائية.
وتوضح المعطيات أن اللجنة المكلّفة بقرار
مجلس الوزراء رقم 38 الصادر في 11 تموز 2025 صاغت الاتفاقية التي وقعت مع الجانب القبرصي، وأن الإحداثيات المعتمدة هي ذاتها التي أقرّها مجلس الوزراء في المرسوم 6433 بتاريخ الأول من تشرين الأول 2011، إبّان حكومة الرئيس
نجيب ميقاتي، والتي أودعها لبنان رسميًا لدى
الأمم المتحدة في العام نفسه. وهذا يعني بنفي قاطع أن اتفاقية 2007 شكّلت مرجعًا للترسيم، إذ إنها لم تُبرَم في مجلس النواب ولم تدخل حيّز التنفيذ، كما أن خط الوسط الذي اعتمدته جرى تصحيحه بالكامل بموجب المرسوم 6433، ما يجعل الحديث عن العودة إليها سباحةً عكس التيار القانوني والدبلوماسي للدولة اللبنانية.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن اللجنة اعتمدت المعايير نفسها التي يكرّسها القانون الدولي، ولا سيّما قرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الدولية لقانون البحار، إضافة إلى أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي انضمّ إليها كلّ من لبنان وقبرص. وهذه المعايير، خصوصًا ما نصّت عليه المادة 74 المتعلّقة بترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والمادة 121 المتعلّقة بأوضاع الجزر وتأثيرها في الترسيم، هي الضامن الوحيد للحلّ المنصف والعادل الذي يراعي وقائع الجغرافيا وحقوق الدول الساحلية. وبناءً على ذلك، فإن الجزيرة القبرصية المأهولة، خلافًا لبعض الادّعاءات، تملك حق الترسيم الكامل لمنطقتها الاقتصادية وجرفها القاري، أسوةً بأي دولة شاطئية، ما يجعل اعتماد خط الوسط وفق الظروف ذات الصلة هو الخيار القانوني والمنطقي الوحيد أمام البلدين.
وفي ما يتعلّق بالعلاقة بين الترسيمين اللبناني – القبرصي واللبناني – السوري، تؤكد المصادر أن الربط بينهما سياسي أكثر منه قانونيًا. فالحدود البحرية تُرسّم ثنائيًا بين كل دولتين، باستثناء النقطة الثلاثية التي تتلاقى فيها حدود لبنان وقبرص وسوريا، والتي اتُفق مع الجانب القبرصي على تثبيتها بشكل نهائي عند إنجاز الترسيم مع
سوريا .
أما بخصوص ما يُشاع عن ضغوط تركية هدفت لتعطيل الاتفاق أو تسريعه، فإن المصادر المعنية تنفي بشكل قاطع وجود أي ضغوط تتصل بعمل اللجنة.
لذلك؛ يتبيّن أن الأسئلة التي أعقبت القمّة اللبنانية – القبرصية تنشأ من سوء فهم أكثر ممّا تنجم عن وجود تناقضات في الموقف اللبناني. فالترسيم مع قبرص جرى على أساس قانوني صلب، لا يقترب من حقوق لبنان البحرية ولا يتأثر بتحوّلات سياسية أو إقليمية، ولا يشمل أي تراجع أو تنازل أو تعديل في المرسوم 6433 الذي لا يزال المرجعية الوحيدة المعتمدة. وما حصل من توقيع في القصر
الجمهوري هو تثبيت قانوني ـ دبلوماسي لخط الوسط الذي اعترف به العالم للبنان منذ عام 2011، وهو ما يجعل الاتفاق الموقع خطوة استراتيجية لتأمين الاستقرار البحري، وتحصين الثروة الغازية، وتحرير الاستثمارات، وفتح الباب أمام مرحلة جديدة من السيادة البحرية الواضحة التي يحتاجها لبنان أكثر من أي وقت مضى.