في الأيام المقبلة، سيتوقّف البابا لاوون الرابع عشر في مزار القديس مار شربل في عنّايا. على الورق، هي محطة ضمن برنامج زيارة رسمية. أمّا على أرض هذا الجبل الهادئ، فستكون لحظة يلتقي فيها رأس الكنيسة الكاثوليكية بذاكرة شعبٍ كامل، مسيحيّين ومسلمين ودروزاً، جرّبوا أن يودِعوا وجعهم عند راهب لبنانيٍ صامت، فوجدوا عنده نوعاً آخر من العزاء.
مزار لا يسأل الداخلين عن طائفتهم
على الطريق الصاعدة إلى المزار، تختلط اللوحات التي تشكر مار شربل بأسماءٍ من كل المناطق وكل البيئات.. نساء محجّبات إلى جانب راهبات بلباسهن الأسود، رجال بدشداشات قروية، شباب يرتدون "تي شيرت" عادية؛ لا أحد يسأل أحداً: من أي طائفة أنت؟ السؤال الوحيد الخفي: ما هو وجعك؟
في
لبنان المنهك بالاصطفافات والحواجز النفسية، يبدو مزار مار شربل كاستثناء هادئ.. مكان لا يحتاج إلى بطاقة تعريف مذهبية، بل إلى قلب مثقل وقنديل يُشعل على نية رجاءٍ ما. كثيرون ممّن يقصدون المكان لم يقرأوا سيرة القديس بتفاصيلها، ولم يدرسوا لاهوت الكنيسة، لكنّهم يعرفون شيئاً واحداً: هناك راهب من هذا الجبل، يشبههم في الفقر والتعب، يسمّونه "طبيب السماء" و"القديس الذي يسمع".
مسلمٌ يشكر، ودرزيٌّ يهمس، ومسيحيٌّ يبكي
في الزاوية القريبة من الضريح، دفاتر سميكة مفتوحة على كلماتٍ بسيطة. لا فصاحة لاهوتية هنا، بل عبارات تشبه أصحابها:
"يا مار شربل، شكراً لأنّ ابني شُفي."
"يا قدّيس، ما بعرف شو بدي قلّك، بس إنت بتعرف قلبي."
"أنا مش من دينك، بس حاسس إنّو بتسمعني."
تلك العبارات ليست قصصاً من كتب، بل واقع يتكرّر كل يوم. سيدة محجّبة تضع يدها على شبّاك الضريح وتتمتم: "ما بدي شي إلّا ترجع بنتي تمشي".. رجل يهمس: "يا مار شربل، دخيلك خلّصني من هالضيقة اللي جوّاتي".. وشاب آخر جاء من منطقة بعيدة يحمل صورة والده المريض ويقف بصمت طويل، كأنّه يفاوض القديس على معجزة.
هؤلاء جميعاً لا يجمعهم مذهب واحد، بل لغة واحدة: لغة الوجع والرجاء. في عنّايا، يتحوّل مار شربل إلى مساحة مشتركة بين لبنانيين كثيراً ما فُرّقوا في السياسة، واجتمعوا في الألم.
قدّيس الصمت في بلد الضجيج
ربّما سرّ جاذبية مار شربل أنّه نقيض كل ما يعيشه اللبنانيون اليوم. بلد الأصوات العالية، التصريحات النارية، الخطابات المتشنّجة… يجد في راهبٍ صامت، عاش ومات في الدير، نموذجاً معاكساً: رجل لا خطابات له، لا حزب، لا منصب، لا طموح دنيويا، ومع ذلك التفّ حوله جمهور من كل المشارب.
هو القدّيس الذي لم يُلقِ خطبةً سياسية واحدة، لكن سيرته أبلغ من كل البيانات. في بلدٍ تكثر فيه الوعود الفارغة، يركض الناس نحو رجل لم يَعِد أحداً بشيء، لكنّهم يلمسون عنده شيئاً من الطمأنينة. في وطنٍ انهار فيه النظام الصحي، يقصد المرضى ضريحه كأنّهم يدخلون إلى عيادةٍ لا تعرف فروقات الضمان ولا سقوف تغطية الاستشفاء.
مار شربل، بهذا المعنى، ليس فقط قديساً مسيحياً في تقليد معيّن، بل رمزاً لنمط حياة: الصمت بدل الصراخ، الصلاة بدل الشتيمة، التواضع بدل الاستعراض.
عندما يصبح اللبنانيون حجّاجاً إلى رجاءٍ واحد
زيارة البابا إلى المزار ستُسلّط الضوء مجدداً على هذه الظاهرة
اللبنانية الخاصة، وتؤكّد كيف تحوّل راهب بسيط من عنّايا إلى "عنوان رجاء" لشعبٍ كامل فقد ثقته بمؤسّساته، فراح يبحث عن وجهٍ آخر يلجأ إليه؟
في السنوات الأخيرة، ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية والانهيار الصحي والنفسي، زاد عدد الذين يقصدون المزار. هناك من يسافر من أقصى
الشمال أو الجنوب في باصات جماعية، ومن يأتي بسيارته المتواضعة، ومن يرسل اسمه مع صديق "ليصلّي عنه". الجميع، تقريباً، يحملون العبارة نفسها في داخلهم: "ما بقى معنا غير الله وقديسيه".
ما يميّز مار شربل في عين كثيرين من غير
المسيحيين أنّه "قديس لبناني". لغة صلاته كانت العربية، جبينه يحمل عرق فلاّحٍ من هذا الجبل ذاته، وملامحه تشبه ملامح أي لبناني يؤمن بهذا البلد رغم الآلام اليومية التي يتعرض لها. هذا القرب الجغرافي والبشري يجعله، في لاوعي الناس، أقرب إلى يومياتهم من أي رمز بعيد. يشبه كثيرا ذلك الجدّ الصامت الذي يجلس في زاوية البيت، لا يتكلّم كثيراً، لكن حضوره يطمئن الجميع.
حين يصل البابا إلى مزار مار شربل، ستُلتقَط الصور الرسمية، وستُنشَر الكلمات في نشرات الأخبار. لكن خلف كل ذلك، سيكون هناك شيءٌ آخر لا تظهره الكاميرات.. آلاف القصص التي أودعها الناس عند هذا الضريح. وجوه مرضى، صور أطفال، أوراق طبية، خواتم زواج، رسائل مطويّة، ودموع لم تُوثَّق بعد.
سيقف الحبر الأعظم أمام ضريح قدّيسٍ صار نقطة تقاطع بين الإيمان الشعبي اللبناني وسعي الناس إلى معنى في وسط الفوضى. سيزور قديساً يطلبه المسيحيون شفيعاً، ويطرق بابه مسلمون ودروز، ويبحث عنده غير المؤمنين عن نوع آخر من السلام الداخلي.
في تلك اللحظة، ستكون عنّايا أكبر من بلدة، والمزار أكبر من كنيسة. سيكون المكان مرآة لوجه لبنان الذي لا نراه كثيراً.. لبنان الناس البسطاء الذين ما زالوا، رغم كل شيء، يتركون صلواتهم على أوراقٍ صغيرةٍ، ويهمسون باسم مار شربل حين ينامون على قلقٍ كبير.
هناك، في ظلال الأشجار المحيطة بالمزار، سيتقاطع درب البابا مع دروب اللبنانيين الذين يأتون من كل الطوائف. وكل واحد منهم، وهو يرفع عينيه نحو ضريح مار شربل، يهمس في سرّه: "يا قديس لبنان… إحمل وجعنا كلّنا".
صلاة البابا لمار شربل
نشرت الدوائر الفاتيكانية المختصّة الكتيّب الرسمي للاحتفالات الليتورجية التي سيترأسها قداسة البابا لاوُن الرابع عشر خلال زيارته الرسوليّة المرتقبة إلى
تركيا ولبنان.
ويتضمّن الكتيّب النصّ الكامل للصلاة التي سيتلوها الحبر الأعظم باللغة
الفرنسية أمام ضريح القديس شربل في دير مار مارون – عنايا.
وفي ما يلي نصّ هذه الصلاة، مترجَمًا إلى اللغة العربية:
يا رب، يا مَن منحتَ القديس شربل،
حارس الصمت في حياة الخفاء،
أن يستنير بنور الحقيقة
ليتأمّل أعماقَ محبتك،
هَبْ لنا، نحن السائرين على مثاله،
أن نخوض في برّية هذا العالم
جهادَ الإيمان الحسن،
وأن نسير بفرح
على خطى ابنك يسوع المسيح.
ليدلّنا خادمك،
الذي عاش في سرّ الصلاة
وغلب التجارب
بأسلحة التوبة،
على عظمة رحمتك،
وليعلّمْنا صمتَ الكلمات
وقوّةَ الأفعال التي تفتح القلوب.
ليستمدَّ لنا من يسوع المسيح،
الذي حرّرنا من كلّ شرّ،
صحّةَ الجسد والروح،
وليَشْفَعْ فينا على الدوام،
حتى يكون لنا نصيب
مع القديسين في الملكوت الأبدي.
لك المجد والتسبيح،
أيها الآب والابن والروح
القدس ، آمين.