مع اقتراب مرور عام كامل على وقف إطلاق النار "الافتراضي"، الذي خرقته
إسرائيل منذ اللحظة التي وقّعت عليه، مبيحة لنفسها ما سمّاه رئيس وزرائها في حينه بنيامين نتنياهو، "حرية حركة" ردًا على ما يمكن أن تعتبره إسرائيل "تهديدًا"، من دون تحديد واضح للمعايير التي يمكن اعتمادها لذلك، يبدو أنّ تل أبيب اختارت أن تعمّق ما يمكن تصنيفه بـ"حربها الأحادية" على جنوب
لبنان ، من خلال جدار مثير للجدل، واستهداف طال قوات اليونيفيل.
فإذا كانت إسرائيل استمرّت على امتداد الأشهر الماضية في شنّ الغارات والقصف المدفعي وعمليات التفجير داخل القرى الحدودية، مستفيدة من صمت الآليات الدولية وعجزها، ومن واقع لبناني مأزوم داخليًا، فإنّ هذا المسار وصل على ما يبدو إلى محطة جديدة أكثر خطورة، وذلك مع تشييد جدار إسمنتي يتخطّى الخط الأزرق، واستهداف مباشر لدورية من قوات "اليونيفيل" بنيران دبابة إسرائيلية، بالتوازي مع استمرار الغارات والاستهدافات.
وفي حين تعيد هذه الوقائع تشكيل مشهد الجنوب بعد عام على "هدنة" فشلت الدول الضامنة لها في ترسيخها، ثمّة من يؤكد أنّ ما يجري ليس مجرد خروقات متفرقة، بل مسار متدرّج، خصوصًا أنه يترافق مع ضخّ إسرائيلي غير مسبوق حول الذهاب إلى حرب مع لبنان. وبين هذا وذاك، تتحرّك الدولة
اللبنانية بين الشكاوى لمجلس الأمن ونداءات الوحدة الداخلية، فهل نحن أمام محاولة إسرائيلية منهجية لفرض وقائع أمنية وحدودية جديدة جنوبًا، تمهيدًا لمرحلة أشد خطورة؟
تصعيد ميداني فوق خطوط 1701
صحيح أنّ التصعيد الميداني
الإسرائيلي في جنوب لبنان ليس جديدًا، إلا أنه أخذ شكلاً أكثر شدّة في الأيام الأخيرة، مع توسيع تل أبيب لأعمال بناء جدار إسمنتي قرب بلدة يارون في القطاع
الغربي ، ما أثار جدلاً واسعًا، حسمته قيادة قوات اليونيفيل بتأكيدها تجاوز الخط الأزرق. لكنّ الجدار المثير للجدل لا يبدو معزولاً، إذ تشير تقارير إلى أنّ إسرائيل تعمل منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار على فرض "منطقة عازلة" بحكم الأمر الواقع في نقاط عدّة، وهو ما يعني عمليًا رسم حدود جديدة بالقوة، بعيداً عن أي تفاوض أو آلية ترسيم.
وسط هذه الأجواء، كان لافتًا تعرّض قوات "اليونيفيل" لرسالة مباشرة بالنار، في الساعات الماضية، إذ أطلقت دبابة "ميركافا" إسرائيلية رشاشاتها الثقيلة باتجاه دورية لقوات حفظ السلام قرب موقع أقامته إسرائيل داخل الأراضي اللبنانية، فأصابت الطلقات مسافة لا تتجاوز خمسة أمتار من الجنود الذين اضطروا للاحتماء أكثر من نصف ساعة إلى أن انسحبت الدبابة، بحسب ما جاء في بيان للقوة الدولية، وصفت فيه ما جرى بأنه "انتهاك خطير" للقرار 1701، داعية الجيش الإسرائيلي إلى وقف أي أعمال عدوانية تستهدف قواتها أو تجري بالقرب منها.
وعلى الرغم من أنّ الاعتداء على "اليونيفيل" جاء في خضمّ سلسلة من الاستهدافات التي شملت مناطق جنوبية عدّة، وأسفرت عن سقوط شهداء بين المدنيّين، إلا أنّه بقي في صدارة الاهتمام، فالأمر هذه المرّة لا يمكن تبريره بسوء التقدير، وبالتالي فهو يعني عمليًا أنّ إسرائيل التي تصرّ على تحدّي القرار 1701 بخروقاتها الجوية والبرية اليومية، باتت تتعامل مع قوات اليونيفيل بوصفها عنصر ضغط تريد إخضاعه أو تقييد حركته، وهو ما تقاطعت عنده معظم القراءات، التي رأت في الاعتداء "محاولة لإسكات الشهود على الانتهاكات المتكرّرة للخط الأزرق".
هل من هامش لبناني؟
بين الجدار المثير للجدل، والاستهداف المتجدّد لليونيفيل، والغارات التي أضحت "روتينًا" في الجنوب، يبقى السؤال مفتوحًا عن الهامش اللبناني في الحركة، وهو ما ينقسم إلى شقّين، أولهما الشقّ المرتبط بـ"
حزب الله " الذي تشير المعطيات إلى أنّ موقفه لم ولن يتغيّر، رغم تزايد الاستفزازات
الإسرائيلية له، خصوصًا من خلال استهداف بيئته الحاضنة، وهو لا يزال متمسّكًا بالتقيّد باتفاق وقف إطلاق النار، ورمي الكرة في ملعب الدول الضامنة، لإلزام إسرائيل بتطبيقه أولاً قبل محاولة فرض أيّ شروط جديدة.
أما لبنان الرسمي، فقد اختار مسار الشكوى الدبلوماسية، إذ رفعت
وزارة الخارجية اللبنانية رسالة إلى مجلس الأمن الدولي تشتكي فيها إسرائيل على خلفية قضم الأراضي عبر الجدار وتجاوز الخط الأزرق، وتدعو المجتمع الدولي إلى إلزامها بالانسحاب من النقاط المحتلّة ووقف الانتهاكات المتكررة لسيادة لبنان. وفي الموازاة، رفع
رئيس مجلس النواب نبيه بري سقف الخطاب السياسي، داعيًا القوى اللبنانية إلى الوحدة في مواجهة "الانتهاكات والمخططات الإسرائيلية"، وهو ما يبدو بعيد المنال بالنظر إلى الانقسام السياسي على كلّ شيء، بما في ذلك مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية نفسها.
على خط موازٍ، تتكاثر الإشارات المتناقضة حول احتمال شنّ هجوم إسرائيلي واسع جديد على لبنان، إذ لا تزال بعض التقارير الإسرائيلية والدولية تلوّح بخيارات عسكرية تحت عنوان منع تعافي "حزب الله"، حتى إنّ البعض بدأ يربط الأمور بضربة أوسع على
إيران أيضًا. في المقابل، يرى البعض أن التهويل بالحرب لا يزال في إطار الحرب النفسية، باعتبار أن إسرائيل تفضّل في الوقت الراهن استمرار حرب الاستنزاف تحت سقف وقف النار، بدل الذهاب إلى مواجهة شاملة مكلفة.
هكذا، وبعد عام على اتفاق وقف إطلاق النار، يجد لبنان نفسه أمام هامش ضيّق، فلا هو قادر على فرض
التزام كامل بالقرار 1701 في ظل موازين القوى العسكرية المختلّة، ولا هو قادر على تحمّل كلفة الانزلاق إلى حرب إسرائيلية جديدة، في وقت تحوّلت لجنة "الميكانيزم" إلى مجرد لجنة "ربط نزاع" على حدّ وصف أحد الخبراء العسكريين. وسط ذلك، لا يبدو أن السؤال المطروح اليوم هو ما إذا كانت هناك حرب جديدة على لبنان، بقدر ما هو: إلى أي حدّ يمكن أن تستمر هذه الحرب الأحادية من دون أن تنفجر حدودها، أو تدفع الأطراف إلى إعادة التفاوض على قواعد اللعبة من الأساس؟