آخر الأخبار

حين تتحول مغارة جعيتا إلى ديسكو.. وأسفاه على أصحاب القرار والحرّاس!

شارك
لم يكن ينقص هذا البلد سوى أن نُطفئ ظلام المغارة لنشعل أضواء الحفلات داخلها. في مكان بُني على الصمت والرطوبة وقطرة ماء تنحت صخرة عبر آلاف السنين، قرّر "مغامرون"، ومن خلفهما إدارة سمحت وجهات رقابية تغاضت، أن يحوّلوا مغارة جعيتا إلى ملهى ليلي. موسيقى صاخبة، تجهيزات، تصوير، ضيوف، وهرولةٌ لالتقاط اللقطة الأجمل على حساب المكان الأجمل. نعم، هكذا ببساطة، نكسر المعايير البيئية، ونُهين واحدًا من رموز لبنان الطبيعية، ثم نبتسم للكاميرا.

هذه ليست "غلطة بروتوكول ". ما جرى قرار مكتمل الأركان، ترتّبت عليه مخاطرة بيئية وأخلاقية وثقافية. المغارات ليست قاعات تسلية مجانية، والكهوف ليست مسارح تجارب في الصوت والضوء، بل أنظمة بيئية مغلقة بميزان دقيق للرطوبة ودرجة الحرارة وترسّبات الكلس. أيّ اهتزاز زائد، أيّ تدفّقٍ مفاجئ لثاني أوكسيد الكربون، أيّ حرارة إضافية من أجهزة الإضاءة، أيّ دهنٍ أو غبار على نتوءات معلّقة، قد يترك أثرًا لا يُغتفر. وهذا ليس تنظيرًا. هذه أبجديات إدارة المواقع الطبيعية "المكشوفة للجمهور"، حيث تُقاس كلّ زيارة وتُحسَبُ كلّ خطوة وتُضاء كلّ لمبة بحساب.

من المسؤول إذن عن تحويل الموقع إلى "ديسكو"؟ لا يُقنعنا أحد بحجّة "تنشيط السياحة". السياحة الحقيقية تُصان بالاحترام، لا بالاستعراض. نريد أسماء: من أعطى الإذن؟ من وقّع الطلب؟ أين تقرير التقييم البيئي؟ أين دفتر الشروط الذي يمنع التضخيم الصوتي والضوئي والازدحام داخل فضاء مغلق شديد الحساسية؟ أين الضوابط التي يُفترض أنّها مكتوبة ومعلّقة عند المدخل لا تُخالف ولا تُفاوض؟ ثم أين الوزارة الوصية، أين إدارة الموقع ، أين شرطة البيئة، إن وُجدت، والأهم أين التفتيش؟ الصمت هنا جريمة مضاعفة، لأنّها ليست مجرّد حفلة مرّت، بل سابقة تفتح بابًا لاعتداءات "مُقنّنة" باسم الفرح والاحتفال.

لنضع الأمور في نصابها. جعيتا ليست "ديكورًا" لصور الحفلات، بل معلَم قوميّ وذاكرة جيولوجية حيّة صنعها الماء عبر آلاف السنين. من يختصرها بـ"لوكيشن" قابل للتأجير بالساعة يسطو على معنى التراث العام. التراث ليس ملك شركةٍ مُشغِّلة ولا وزارةٍ تنال حصّتها من البطاقات، التراث ملك الناس والأجيال. ومن يقبل بالتنازل عنه بهذه الخفّة، سيقبل غدًا بإطفاء آخر ما تبقّى من خطوطٍ حمراء تحت شعار "نحتاج مداخيل". هكذا تبدأ الانهيارات الأخلاقية: بما هو "مرّة واحدة"، فإذا بها تتحوّل "عرفًا".

المدافعون سيقولون إنّ "الحدث كان راقيًا" وإنّ "الإجراءات اتُّخذت"، وإنّ "الوقت كان قصيرًا" وإنّ "عدد الحضور محدود". هذه سرديّات تبريرية لا تصمد أمام منطق بسيط. الرقيّ في الكهوف يعني الاحترام والالتزام الصارم بمعايير الاستخدام. والإجراء الحقيقي الوحيد المقبول هو أن تُمنع الأنشطة الاحتفالية ذات الضجيج داخلها منعًا باتًا. أما "الوقت القصير " فمُخاتلة. أثر الاهتزاز والحرارة والرطوبة لا يُقاس بالثواني، بل بما يتركه على دورة حياة التكوينات الكلسية والكائنات المجهرية التي تعيش في ظلمة المغارة. وأمّا "العدد المحدود"، فالسؤال البديهي: لماذا أصلًا يُسمح بنشاطٍ من هذا النوع ولو لعشرة أشخاص؟

لا نُريد مسرحيات اعتذار. نُريد محاسبة واضحة ومسارًا تصحيحيًا شفافًا. والأهم أن نتوقّف عن إهانة لغتنا حين نسمّي "الاعتداء" "حدثًا استثنائيًا"، أو نسمّي "الفوضى" "مبادرة سياحية". هذا بلدٌ يتنفّس من رئتين: تراثه الطبيعي وتراثه الثقافي. كلّ مرّة نسمح فيها باستباحة أحدهما نخسر قليلًا من قدرتنا على البقاء. لم نعد نملك رفاهية التجارب. من يريد أن يحتفل فليجد لنفسه فضاءً يناسب ضوضاءه. من يريد صورةً مُبهِرة فليستثمر في الخيال لا في تخريب الواقع. ومن يريد أن "ينشّط السياحة" فليحفظ الأثر قبل أن يروّج له.

يا للأسف فعلًا على الحرّاس الذين رضخوا، وعلى الجهات التي صمتت، وعلى الموقّعين الذين سهّلوا. لكنّ الأسف لا يكفي. المطلوب أن تتحوّل هذه الواقعة إلى نقطة تحوّل، لا إلى سابقةٍ تُسوَّق. المطلوب أن يسمع كلّ مسؤولٍ جملة واحدة بسيطة لا تحتمل التأويل: المغارة ليست لكم كي تبيعوها بالساعة، المغارة لنا جميعًا، ولمن سيأتي بعدنا، وللصمت الذي صنعها حجرًا حجرًا. وإذا لم تفهموا هذا الآن، فستسمعونه لاحقًا في قاعات القضاء والرأي العام، حيث لا تنفع الأضواء ولا الموسيقى، بل ينفع فقط معيار واحد اسمه الكرامة البيئية وحُرمة المكان.
لبنان ٢٤ المصدر: لبنان ٢٤
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا