شهدت الساحة
اللبنانية في الفترة الأخيرة نوعًا من الهدوء السياسي النسبي مقارنة بالاشهر الماضية، بعد مرحلة طويلة من التوتر والسجالات الحادة التي طغت على المشهد الداخلي. هذا التحوّل لا يبدو عابرًا أو شكليًا، بل يرتبط بمجموعة من العوامل المتداخلة التي بدأت تفرض إيقاعًا مختلفًا على الحياة السياسية في البلاد، وتعيد ترتيب أولويات القوى والأحزاب وفق ميزان جديد فرض نفسه بعد التطورات الأخيرة في المنطقة.
ابرز هذه العوامل يتعلق بما يمكن تسميته “معادلة جديدة” فرضها
حزب الله في الداخل اللبناني لاول مرة بعد الحرب الأخيرة التي اندلعت قبل نحو عام. فالحزب، الذي وجد نفسه في مواجهة ضغوط سياسية وإعلامية غير مسبوقة، نجح إلى حدّ بعيد في امتصاص جزء كبير من هذه الحملات، وأعاد تموضعه داخليًا عبر مقاربة أكثر هدوءًا وانضباطًا. هذه المقاربة سمحت له بإعادة تنظيم صفوفه، وترميم صورته السياسية في ظل واقع داخلي متقلّب، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على سلوك خصومه أيضًا، الذين بدأوا يراجعون حساباتهم في ضوء التبدلات الإقليمية.
ثاني العوامل يتمثل في المناخ الإقليمي والدولي العام، الذي يسير بخطى متسارعة نحو التسويات بدل المواجهات. المنطقة بأكملها تعيش مرحلة انتقالية دقيقة، تشهد فيها العواصم الكبرى إعادة رسم للعلاقات والتحالفات بعد سلسلة من الصراعات الطويلة. هذا الميل نحو الهدوء الإقليمي ينعكس بشكل مباشر على
لبنان ، الذي غالبًا ما يكون ساحة لتأثيرات الخارج. فمع تراجع التصعيد في الإقليم، تصبح المصلحة اللبنانية أكثر ميلًا إلى الاستقرار الداخلي، خصوصًا مع اقتراب الاستحقاقات السياسية الحساسة.
كما أن
القوى السياسية في لبنان باتت تدرك أن التصعيد في هذه المرحلة لم يعد مجديًا. فالمشهد الداخلي يقترب من انتخابات نيابية ستحدد التوازنات المقبلة داخل
البرلمان ، وبالتالي داخل المؤسسات الرسمية. ولهذا، فإن معظم الأطراف تفضّل الحفاظ على وضع مستقر، على الأقل حتى مرور هذا الاستحقاق، لتقدير حجمها الحقيقي في ضوء النتائج.
في المقابل، لا يمكن القول إن الهدوء الحالي يعني نهاية الخلافات أو التناقضات بين المكونات اللبنانية، بل هو أقرب إلى “هدنة سياسية” مؤقتة فرضتها الضرورات. الجميع يترقب المرحلة المقبلة، والكل يدرك أن ما بعد الانتخابات سيكون مختلفًا عمّا قبلها. فهذه الانتخابات قد ترسم معادلة سياسية جديدة تعيد توزيع مراكز القوة والنفوذ داخل الدولة، وتفتح الباب أمام تسويات أوسع، سواء في الداخل أو في الإقليم.
التهدئة النسبية التي تشهدها البلاد ليست مجرّد صدفة، بل نتيجة تراكمية لعوامل داخلية وإقليمية جعلت القوى اللبنانية تميل إلى تبريد الجبهات بانتظار ما ستفرزه المرحلة المقبلة. لبنان اليوم يقف على عتبة مرحلة مفصلية، قد تحدد ملامح توازنه السياسي لسنوات مقبلة.