لم يمرّ كلام توم براك عن الحكومة اللبنانية والجيش والمقاومة مرور الكرام، لكنه أيضًا لم يواجه بردود سياسية رسمية على المستوى المتوقع، ما فتح الباب أمام تساؤلات حول الموقف اللبناني وكيفية إدارته للخطاب السياسي الآتي من الخارج، فالمواقف الصادرة حتى الآن بدت مترددة وخجولة، أقلّه بالمقارنة مع الموقف الرسمي من تصريحات أخرى، قد تكون أقلّ خطورة، كما حصل مؤخرًا مع عدد من المسؤولين الإيرانيّين.
ففيما كان
رئيس مجلس النواب نبيه بري واضحًا وحازمًا في رفض التوصيفات التي أطلقها براك، ولا سيما أنها تتناقض مع ما سبق أن قاله في العاصمة اللبنانية
بيروت ، اكتفى رئيس الحكومة نواف سلام باستغراب تصريحات براك التي اعتبر أنها "تُشكِّك بجدّية الحكومة ودور الجيش"، مؤكدًا أنّ حكومته مُلتزَّمة بتنفيذ بيانها الوزاريّ كاملًا، ولا سيّما لجهة "بَسْط سلطة
الدولة على كامل أراضيها بقواها الذاتيّة، وحصر السِّلاح بيدها وحدها".
وبين رفض بري واستغراب سلام، ثمّة علامات استفهام تطرح حول ما إذا كانت هذه المواقف ترقى فعلاً لمستوى "خطورة" تصريحات المبعوث الدولي الذي يقول البعض إنّه أكد مرّة أخرى "انحياز"
الولايات المتحدة ، بوصفه "
حزب الله " بالعدو والخصم، ويرى البعض الآخر أنّها تنذر بتوسعة المعركة، بل "تبارك" في مكان ما التصعيد
الإسرائيلي ، بعدما كان اللبنانيون يعوّلون عليه الضغط على
إسرائيل لإقناعها بالانسحاب من النقاط التي احتلّتها..
رفض صريح وتثبيت للثوابت
قد لا يكون مُستغرَبًا أن يأتي موقف رئيس مجلس النواب
نبيه بري عالي النبرة، فقد رفض بشكل قاطع توصيف براك للجيش والحكومة والمقاومة، واعتبره مسيئًا وغير مقبول. ومن خلال لغته المباشرة، بدا بري وكأنه يضع معيارًا للموقف اللبناني الرسمي، داعيًا إلى عدم التأخر في الرد، وكأنّه يلمّح إلى أن التراخي يضعف صورة الدولة أمام الداخل والخارج، ولا سيما أنّ التصريحات انطوت على "إهانة" للدولة ككلّ، وليس لشريحة لبنانية فقط.
كما أنّ بيان بري يعكس موقعه التقليدي كمدافع عن شرعية المقاومة، وحامٍ لشراكتها مع الدولة. فهو لم يتوقف فقط عند انتقاد مضمون تصريحات براك، بل ذهب أبعد ليضع الإطار السياسي للرد: رفض مطلق وعدم مساومة على المعادلة القائمة بين الجيش والمقاومة والحكومة. بهذا المعنى، لم يكن كلام بري دفاعًا عن المقاومة وحسب، بل محاولة لرسم خط أحمر أمام أي مسعى خارجي لإعادة تعريف دور الدولة أو مؤسساتها.
لكن أبعد من ذلك، يقول العارفون إنّ هذا الموقف، على حدّته، يعكس "استياء" بري من التصريحات، ولا سيما أنّها تتناقض مع ما كان قد سمعه من الموفد الأميركي خلال زياراته الأخيرة إلى بيروت، وهو ما يُخشى أنه يشكّل "تنصّلاً" من كل المباحثات التي قام بها خلال فترة تولّيه للمفاوضات، ولا سيما أنّ براك الذي "يشكّك" اليوم بدور الحكومة والجيش، سبق أن "نوّه" بهذا الدور في أكثر من مناسبة، وهو ما يثير الريبة إلى حدّ بعيد.
ماذا بعد؟
قد لا يكون مستغرَبًا أيضًا أن يأتي موقف رئيس الحكومة نواف سلام أقل صرامة من ذلك الذي صدر عن بري، بل إنّ هناك من يرى أنّ مجرّد صدور "ردّ" على كلام براك عنه يُعَدّ خطوة إيجابية تُسجَّل له، ولو اكتفى فيه باستغراب تصريحات الموفد الأميركية، وتأكيد
التزام حكومته بمسألة حصر السلاح بيد الدولة، في تكرار لمعادلة يعرف هو قبل غيره أنها موضع جدل داخلي، طالما أنّ "حزب الله" لا يزال رافضًا لها في العلن.
بذلك، ظهر بيان سلام وكأنه محاولة للتوفيق بين رفض الإهانة من جهة، وبين تجنّب الدخول في مواجهة مباشرة مع الموقف الخارجي من جهة أخرى، علمًا أنّ سلام حاول تجنّب هذه المواجهة، بتأخيره الردّ، كما أنّ بعض التسريبات السابقة لبيانه أشار إلى أنه ردّ على وزير الطاقة الذي فاتحه بضرورة صدور موقف حكومي يردّ على تصريحات براك، بأن "لا لزوم لذلك" في الوقت الحالي.
وإذا كان هناك من ينتقد موقف سلام، باعتبار أنّه لم يرقَ لمستوى المواجهة، فإنّ هناك من يعتبر أنّ الواقعية السياسية تفرض عدم القفز فوق هذا المستوى تحديدًا، خصوصًا أنّ
لبنان في الوقت الحالي يحتاج إلى دعم المجتمع الدولي، وبالتالي فإنّ أيّ مواجهة سياسية، محسوبة كانت أم غير محسوبة، مع الولايات المتحدة، لن تفيده بشيء، بل ستعقّد الأمور أكثر، وربما تفتح الباب العريض أمام جولة جديدة من القتال، بمباركة واشنطن.
في المحصّلة، عكست الردود اللبنانية على تصريحات براك رفضًا لها، سواء عبر بيان بري الحازم أو عبر موقف سلام الذي شدّد على التزام حكومته بالثوابت الدستورية. لكن تبقى الأسئلة مفتوحة حول مدى قدرة هذه المواقف على كبح تداعيات كلام الموفد الأميركي، وما إذا كانت ستكفي لتثبيت صورة الدولة أمام تحديات المرحلة المقبلة، وسط مخاوف وهواجس تبدو مشروعة، من أن تكون تصريحاته توطئة لمجهول آتٍ..