لن نضع هذه الصورة في الأرشيف. بل سنتركها على صفحات التواصل الاجتماعي لتبقى شاهدة على غدر
إسرائيل واجرامها، وما تقوم به في الجنوب اللبناني وفي غزة من مجازر بحق الإنسانية والطفولة. هذه الصورة أن لم تحرّك ضمائر المسؤولين في العالم فلا شيء سيحرّكها بعد اليوم. ماذا يمكن أن يقول هؤلاء عندما تقع هذه الصورة بين أيديهم، ما هو شعورهم حيال أم فقدت أطفالها الثلاثة، وهي تطبع على اكفانهم آخر قبلة قبل الوداع الأخير؟
ليست مجرد صورة عابرة، بل هي حقيقة يمكن أن تعيشها كل أم لبنانية أو غزاوية إذا استمرّت إسرائيل في قتل الطفولة من دون رادع أو وازع ضمير.
ففي لحظة واحدة، وبينما كانت الضحكات الصغيرة تملأ أرجاء البيت المتواضع في
بنت جبيل ، تحوّلت تلك الضحكات إلى صرخات مكتومة، ثم إلى صمت أبدي. ثلاثة أطفال من عائلة واحدة ارتقوا
شهداء ، ضحايا غارة إسرائيلية لم تفرّق بين عدو ومذنب، ولا بين براءة وبندقية.
كانوا ثلاثة، كأنهم ثلاث زهرات فتية تفتحت للتو في حديقة الحياة. أعينهم المضيئة التي كانت ترسم الأمل لأهلهم، انطفأت فجأة تحت ركام بيتهم. لم يحملوا سلاحاً، ولم يعرفوا من العالم إلا دفء العائلة وبهجة الطفولة، لكن آلة الحرب
الإسرائيلية قررت أن تحرمهم من
المستقبل ، وأن تحوّل أحلامهم إلى رماد.
أمام هذه المأساة، لا يمكن للإنسان إلا أن يتساءل: أيّ قانون يبرر قتل الأطفال؟ أي شريعة، وأي دين، وأي قيم إنسانية تسمح بأن تُزهق أرواح بريئة بهذا الشكل الوحشي؟ إن دماء هؤلاء الأطفال ليست مجرد رقم يضاف إلى قائمة الضحايا، بل هي وصمة عار على جبين الإنسانية جمعاء، ونداء صارخ يجب أن يهز ضمير العالم بأسره.
من بنت
جبيل ارتفع بكاء الأمهات، وانطلقت صيحة الآباء الذين دفنوا أبناءهم بأيديهم. من هناك، علت صيحات الغضب: إلى متى يُترك الأطفال وقوداً لحروب لا ذنب لهم فيها؟ إلى متى يبقى
المجتمع الدولي أسيراً للصمت، مكتفياً ببيانات شجب لا تُغني ولا تُنقذ روحاً واحدة؟
إن قتل ثلاثة أطفال من عائلة واحدة ليس مجرد مأساة محلية، بل هو جريمة ضد الإنسانية. كل من يسكت عنها شريك فيها. وكل من يتغاضى عن إدانتها، أو يحاول تبريرها، يقتل الضمير الإنساني في داخله.
أطفال بنت جبيل اليوم هم مرآة لكل أطفال العالم الذين يُهددهم العنف والاحتلال. موتهم يطرح سؤالاً مؤلماً: أي مستقبل نتركه للطفولة إذا بقيت الحروب أقوى من العدالة، وإذا بقيت حياة الأبرياء أرخص من صفقات السلاح؟
ليكن دمهم صرخة تتردّد في كل محفل، وصوتاً لا يُسكت حتى تتحقق العدالة. فالأطفال الذين سقطوا في بنت جبيل ليسوا مجرد "أرقاماً" في نشرات الأخبار، بل هم قلوب نابضة توقفت عن الخفقان بسبب جشع وحقد وحرب عمياء.
ولعلّ دموع أمّهم، وغيابهم الأبدي، ستكون لعنة على كل صمت وتواطؤ، وشاهداً إلى الأبد على أن الإنسانية، حين تُقتل الطفولة، تكون قد خسرت نفسها.
أطفال بنت جبيل كأطفال قانا وكأطفال بيت لحم وكأطفال من دون غطاء إلاّ السماء. وبهذه الصورة الصارخة نفتح جرحًا لن يندمل قبل أن تُرتدع إسرائيل ويوضع لجرائمها ومجازرها حدّ فاصل بين الحرية والموت.