يشهد لبنان مرحلة انتقالية دقيقة في علاقته مع الولايات المتحدة وإسرائيل، بعد أن بات واضحا أن واشنطن لم تعد ترى في الساحة اللبنانية أي أولوية استراتيجية. فمغادرة السفيرة الأميركية ليزا جونسون وسقوط ورقة توم براك وما سبقها من أوراق اميركية، كل ذلك يمثل نهاية فترة طويلة من التدخل الأميركي المباشر في الشأن اللبناني، وتسليم زمام المبادرة عمليا لإسرائيل التي تنطلق، وفق أوساط دبلوماسية غربية، من قناعة راسخة بأنها الطرف الأقوى ولا تحتاج إلى أي تفاهم أو تسوية مع بيروت ، حيث تتغلب داخل إسرائيل مقاربة تقوم على أن ميزان القوى العسكري والسياسي كفيل بفرض وقائع جديدة من دون الحاجة إلى أي تفاهمات مع لبنان. ويستند هذا الموقف إلى غياب ضغوط أميركية فعلية، الأمر الذي يمنح حكومة بنيامين نتنياهو هامشا واسعا في إدارة الملف الحدودي وفق أولوياتها الأمنية.
الخطاب الأميركي الجديد، المبني على الانكفاء الدبلوماسي والمالي، يكشف، بحسب مصادر أميركية، أن السياسة الخارجية للبيت الأبيض في لبنان لن ترسم بعد اليوم من داخل
وزارة الخارجية في واشنطن، بل من الميدان السياسي والعسكري في تل أبيب. وهذا يضع لبنان أمام معادلة صعبة تقوم على غياب الضغط الأميركي على إسرائيل للالتزام بالانسحابات أو وقف الانتهاكات، في مقابل تزايد شهية تل أبيب لفرض وقائع جديدة على الحدود وفي الداخل اللبناني.
في هذا السياق، تبرز العودة إلى "اتفاقية الهدنة" لعام 1949 كإحدى الأوراق النادرة المتاحة للبنان لإعادة تنظيم علاقته مع إسرائيل ضمن إطار قانوني دولي، فإعلان رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون أن الاتفاقية لا تزال قائمة من حيث المفعول القانوني، وتأكيد رئيس الحكومة نواف سلام أن لبنان سيطالب بتنفيذ الانسحاب
الإسرائيلي وفق الحدود الدولية المنصوص عليها فيها، يعطيان زخماً سياسياً لمشروع إعادة إحيائها.
من هنا، تبدو اللحظة الراهنة حاسمة، إذ ترى مصادر مطلعة على الأجواء الأميركية أن المطلوب من "
حزب الله " موقف جريء يضع المصلحة الوطنية فوق الحسابات الآنية، ويؤكد الالتزام باتفاقية الهدنة وبمرجعية الدولة في قرار السلم والحرب. لكن "الحزب"، من وجهة نظره، يشير إلى أن إسرائيل أساسا لا تعترف باتفاق الهدنة، فضلًا عن أن المشهد تجاوز اتفاقية عام 1949 ليصبح مرتبطاً بالقرار 1701.
ومن هنا فإن إحياء الاتفاقية يوفر للبنان ، بحسب مصادر دبلوماسية عدة عناصر قوة: وهي إطار قانوني دولي يعزز موقفه أمام
الأمم المتحدة والمجتمع الدولي. مرجعية بديلة عن التفاهمات المباشرة مع إسرائيل التي يرفضها الداخل اللبناني. وأداة للضغط السياسي تُذكّر بأن الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المتبقية واجب قانوني غير منفذ منذ عقود.
وعليه يمثل تطوير اتفاقية الهدنة إلى صيغة أكثر من هدنة وأقل من تطبيع، بحسب مصادر أميركية، خيارا براغماتيا للبنان في هذه المرحلة، إذ يوفر إطارا قانونيا لضبط التوتر بعيدا عن مسار التطبيع المرفوض داخليا. وتنبع أهمية هذا الخيار من كونه الفرصة الأخيرة المتاحة، خاصة بعد توجه واشنطن إلى التراجع خطوات الى الوراء في مجال تقديم الدعم المالي للبنان وتقليص مساعيها الدبلوماسية.