من حيث التعريف العام، اليوروبوند هي أداة مالية تصدرها الدول أو الشركات بعملات صعبة كالدولار أو في الأسواق الخارجية، وتباع للمستثمرين الأجانب والمحليين. أما في لبنان ، فجرى الاعتماد عليها بشكل متكرر منذ العام 1994 لتمويل الدولة وجذب العملة الأجنبية. ومع مرور السنوات، تضخم الدين العام اللبناني وأصبح جزء كبير منه مقوّمًا بالدولار عبر هذه السندات، إلى أن بلغت قيمة اليوروبوند اللبنانية ما يزيد على 30 مليار دولار مع حلول العام المأزوم 2019. فما الجديد اليوم؟
في آذار من العام 2020، أعلنت الحكومة رسميًا التوقف عن دفع استحقاقات اليوروبوند لأول مرة في تاريخها، بسبب الانهيار المالي وفقدان احتياطات
مصرف لبنان ، الأمر الذي أدى إلى تصنيف لبنان كدولة متعثرة. من هنا، فقدت السندات قيمتها في الأسواق العالمية، وتراجعت إلى أقل من 10 سنتات للدولار الواحد، وتضررت سمعة لبنان الائتمانية، ما جعل العودة إلى الأسواق الدولية شبه مستحيلة.
أما في الوقت الراهن، فقد سجّلت سندات اليوروبوند اللبنانية المستحقة في 2035 قفزة مهمة متجاوزة حاجز 20 سنتاً للدولار للمرة الأولى منذ العام 2020، وهو تحسّن ملحوظ مقارنة بفترات سابقة حيث تم تداولها عند 6–9 سنتات.
في هذا الإطار، أوضح البروفسور والخبير الإقتصادي بيار الخوري أنه "حين نتأمل في مسار سندات اليوروبوند اللبنانية وصولاً إلى أيلول 2025، فلا يمكن عزل صعود أسعارها من حدود 3% إلى ما يقارب 20% عن المشهد السياسي والاقتصادي المركّب الذي عاشه لبنان".
الخوري اعتبر في حديث لـ"
لبنان 24 " أن هذا الارتفاع ليس تعبيراً عن عودة الثقة بقدرة
الدولة على السداد بقدر ما كان انعكاساً لموجة مضاربات مبنية على توقعات وتسريبات حول مفاوضات محتملة مع
صندوق النقد الدولي ، وإشارات عن مبادرات أوروبية وخليجية لدعم لبنان مالياً في مقابل إصلاحات محددة.
وأشار إلى أن هنا، لعب العامل النفسي في السوق دوراً مضاعفاً: فالمستثمرون الذين اشتروا السندات بأسعار متدنية جداً وجدوا أن أي خبر عن تسوية أو إعادة هيكلة أقل قسوة من المتوقع كفيل بأن يرفع السعر سريعاً، حتى من دون تحسّن جوهري في الأساسيات المالية للدولة.
هذه القفزة حملت في طياتها أيضاً مزيجاً من الواقع والرهان، خاصة وأن لبنان ما زال غارقاً في أزمته. غياب إصلاحات فعلية في الكهرباء والقطاع العام، واستمرار العجز المزمن في المالية العامة، وسواها من المشاكل المزمنة، بينما الرهان يكمن بكون الضغوط الدولية والإقليمية قد تجبر السلطة على القبول ببرنامج إصلاحي ولو تدريجياً، الأمر الذي سيخفّف من حدّة الـ haircut في أي تسوية ديون مقبلة. ومن هنا نفهم كيف باتت السندات ساحة مراهنة بين من يعتبر أن لبنان يتّجه إلى إعادة هيكلة أقل ضرراً، وبين من يراها فرصة قصيرة الأجل للخروج بربح سريع.
وقال الخوري: "في المدى
القصير ، تبدو الأسعار شديدة الحساسية لأي خبر سياسي، سواء كان إعلاناً عن اتفاق مبدئي مع صندوق النقد أو تسوية رئاسية داخلية تفتح الباب أمام إصلاحات. قد نشهد موجات إضافية من الارتفاع السريع، لكن في ظل غياب تنفيذ فعلي للإصلاحات، يظل هذا الصعود هشاً وعرضة للانعكاس عند أول خيبة أمل".
وأضاف: "أما على المدى المتوسط، فإن مسار الأسعار سيتحدد وفقاً لجدية لبنان في إعادة هيكلة دينه بطريقة منظمة، وبمدى انخراط شركائه الدوليين في تقديم دعم مادي ملموس. إذا جرى التوصل إلى اتفاق إصلاحي شامل، يمكن أن تستقر السندات عند مستويات أعلى وأكثر استدامة، أما إذا استمر التعثر، فقد تعود إلى مستويات منخفضة، مع كل ما يحمله ذلك من انعكاس على ثقة المستثمرين".
فمن الناحية الاقتصادية الأوسع، لا تعكس هذه الحركة سوى ضعف الوضع المالي العام. فارتفاع أسعار السندات في الأسواق الثانوية لا يعني أن الدولة استعادت قدرتها على التمويل أو الاقتراض، بل يظل مؤشراً إلى أن لبنان ما زال رهينة التسويات السياسية الخارجية. لهذا السبب، تبقى الأسواق المحلية والدولية مترددة في التعامل مع لبنان كشريك استثماري موثوق. وفي هذا السياق، يتزايد خطر المخاطر النظامية: المصارف اللبنانية التي تحمل جزءاً من هذه السندات قد تجد نفسها مضطرة لتقييم محافظها مجدداً، ما ينعكس على ميزانياتها، فيما أي خيبة أمل قد تعمّق أزمة الثقة في القطاع المالي بأسره.
المخاطر المرتبطة بهذه السندات واضحة: ركاكة الوضع السياسي، ضعف الإصلاحات، والاعتماد على تسويات خارجية غير مضمونة. لكن وسط هذه الصورة القاتمة، هناك فرص لا يمكن إنكارها. فالمستثمر الذي يملك قدرة على تحمّل المخاطر قد يجد في هذه السندات عوائد عالية في حال أُبرمت تسوية مقبولة.
كما أن دخول أطراف دولية داعمة للبنان يمكن أن يفتح نافذة زمنية للاستفادة من فروقات الأسعار. التحدي يبقى في كيفية إدارة هذه المخاطر: أي مستثمر جاد يحتاج إلى تنويع محفظته، اعتماد استراتيجيات تحوّط، وتخصيص حصة محدودة من أصوله لمثل هذه الأدوات عالية المخاطر، من دون الانجرار وراء موجة المضاربات العاطفية.
في النهاية، ما نشهده ليس مجرد قصة أسعار ترتفع أو تنخفض، بل انعكاس حيّ لتوازن القوى في لبنان، وللمعادلة المعقدة بين السياسة والاقتصاد. السندات هنا تحوّلت إلى مرآة حساسة، تعكس هشاشة النظام كما تعكس آمالاً مؤقتة بإمكانية الخروج من النفق.