يشكل الاجتماع الأخير بين اللجنتين اللبنانية والسورية في دمشق محطة لافتة، فقد عاد النقاش إلى الملفات القضائية والأمنية المشتركة في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، ليطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين البلدين.
من حيث الشكل، عرض الاجتماع كخطوة تقنية لبحث ملفات المفقودين اللبنانيين في السجون
السورية ، والموقوفين السوريين في
لبنان ، على أن تستكمل الجولة المقبلة في
بيروت .
لكن في الجوهر، ما جرى يتجاوز البعد القضائي، ليشكل اختبارا لمدى جدية الطرفين في إعادة ترميم الثقة بعد انتقال السلطة في دمشق إلى الرئيس أحمد
الشرع .
حمل الوفد اللبناني معه اقتراحا عمليا يقضي بتسليم لوائح بأسماء الموقوفين المطلوب الإفراج عنهم، ودراسة ملفاتهم لتحديد من أمضى فترات توقيف أطول من العقوبة المقررة، لكن بيروت وضعت خطا أحمر واضحا برفض إطلاق أي متورط في قتل عسكريين لبنانيين، وهو موقف يعكس خشية داخلية من فتح باب تسويات سياسية على حساب دماء الجيش.
في المقابل، طرح الجانب السوري أربعة مسارات: تفعيل الاتفاقيات القديمة، توقيع معاهدات جديدة، البحث في قانون عفو لبناني، أو التوصل إلى تفاهم مباشر بين وزيري العدل. والمفارقة أن هذه الطروحات تكشف أن دمشق لا تتعاطى مع الملفات العالقة بإيجابية، بل تسعى إلى فرض مقاربات تتجاوز حتى الاتفاقيات العدلية الموقعة سابقًا.
ويبقى الملف الأكثر حساسية هو ملف موقوفي رومية، حيث تطالب دمشق بالإفراج عن نحو 350 منهم كمرحلة أولى. هؤلاء يضمون لبنانيين وسوريين وجنسيات عربية أخرى، وتتنوع التهم بين الانتماء إلى النصرة وداعش وجند الشام وكتائب عبدالله عزام.
بعضهم صدرت بحقهم أحكام قطعية، فيما آخرون ما زالوا موقوفين منذ سنوات من دون محاكمات مكتملة وبالتالي فإن أي إفراج غير مدروس هنا قد يشكّل ارتدادات أمنية داخل لبنان، بما يتجاوز العلاقة الثنائية.
وسط ما تقدم، فإن التحضير لزيارة وزيري الخارجية والعدل السوريين إلى بيروت سيكون موضع ترقّب، لكنّه سيجري وسط حذر كبير. فالعلاقة بين البلدين ما تزال أسيرة ملفات شائكة: المفقودون، السجناء، ترسيم الحدود، والتدخلات الأمنية.
هذه الملفات تبدو أمام اختبار جديد قد يحدد مسار المرحلة المقبلة، لكن المؤشرات حتى الآن توحي بأن
سوريا تطلب أكثر مما تسمح به حدود التعاون المتوازن.
لقد أقر وزير العدل عادل نصّار بأن المفاوضات القضائية معقّدة وبطيئة، مع خشية من تحوّل الاجتماعات إلى مجرّد إدارة أزمة بدل حلها. ما جرى يشكل بداية اختبار لإمكانية انتقال العلاقة اللبنانية–السورية من مرحلة الشكوك والتجاذبات إلى مسار مؤسساتي واضح.
والسؤال يبقى: هل تكفي الإرادة السياسية لتجاوز الأثقال، أم أن الملفات القضائية ستظل رهينة الحسابات الأمنية والضغوط السورية التي تتجاوز حدود الاتفاقيات الثنائية؟
الخبير الدستوري والقانوني الدكتور عادل يمين يقول ل "
لبنان 24 " انه استناداً إلى المادة 15 من قانون
العقوبات اللبناني تُطبَّق الشريعة اللبنانية على كل الجرائم المقترفة في الأراضي اللبنانية ، ووفقاً للمادة 32 من القانون ذاته لا تبيح الاسترداد الجرائم الداخلة في نطاق صلاحية الشريعة اللبنانية الإقليمية والذاتية والشخصية وسنداً للمادة 4 من الاتفاق القضائي المعقود بين لبنان وسوريا تاريخ 27/10/1951 لا يُسمَح بالتسليم في الأحوال الآتية :"إذا ارتُكبَ الجرم في أراضي الدولة المطلوب إليها التسليم، أو إذا كان الشخص المطلوب قد جرت محاكمته أو كان قيد التحقيق أو المحاكمة من أجل الجريمة التي سببت الطلب" ، لذلك، يستحيل حالياً تسليم سوريا الموقوفين ولا المحكومين بالسجون اللبنانية عن جرائم ارتكبوها على الأراضي اللبنانية، وفي كل الأحوال لا يجوز إقرار قانون عفو عن جرائم استهدفت الأمن القومي اللبناني وأفراد وضباط الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية والمواطنين الأبرياء بعمليات إرهابية لأنّ ذلك يتعارض مع كرامة لبنان ويشكل طعنة لدماء
الشهداء .
رغم أن البرلمان يملك، من حيث الشكل، صلاحية إصدار قوانين عفو، فإن هذا لا يعني،بحسب مصادر قضائية، أن كل عفو هو مشروع أو عادل. فالدستور اللبناني يقيّد التشريع بما لا يتعارض مع المبادئ العامة للعدالة، وبما يحفظ الكيان، والاستقرار، وكرامة المؤسسات. ومن هنا، فإن أي عفو عن جرائم إرهابية، أو أعمال تخريبية مسلحة، يشكل انتكاسة في منظومة العدالة، ويكرس مفهوم المساومات السياسية على حساب دماء الشهداء.