مجدّدًا، أطلّ
الأمين العام لـ"
حزب الله " الشيخ نعيم
قاسم ليعيد تثبيت معادلات الحزب الاستراتيجية في لحظة سياسية دقيقة تتقاطع فيها التحديات الداخلية مع الضغوط الإقليمية والدولية المتصاعدة، داعيًا من لا يريد دعم
المقاومة إلى عدم طعنها في الظهر على الأقلّ، وغامزًا من قناة "حصرية السلاح" التي جدّد رفضه لها، بعد أيام من جلسة حكوميّة أثمرت توافقًا لافتًا، وإن كرّست "المبدأ" الذي سبق أن نصّ عليه البيان الوزاري.
في كلمته خلال الاحتفال بذكرى المولد النبوي، مرّر الشيخ قاسم جملة من الرسائل الواضحة والمتعدّدة الاتجاهات، أبرزها التذكير بخطر الأطماع
الإسرائيلية في الجنوب اللبناني، والتأكيد على رفض أي محاولة لتجريد المقاومة من سلاحها، بالتوازي مع الهجوم على الوساطة الأميركية التي وصفها بـ"المتواطئة"، إلى جانب إعلان التضامن مع دولة قطر في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية التي استهدفتها يوم الثلاثاء.
من هنا، يمكن القول إن الخطاب لم يكن مجرد ردّ فعل على حدث سياسي محدد، بل محطة لإعادة رسم موقع "الحزب" في المعادلة
اللبنانية والإقليمية معًا، ما يجعل من الضروري قراءته في ضوء السياق الأوسع، فأيّ رسائل استراتيجية وسياسية ينطوي عليها، سواء على مستوى الواقع الراهن، أو
المستقبل المنظور، وكيف يُقرَأ في السياق الأعمّ، إقليميًا ودوليًا، خصوصًا في ضوء المحاولات الإسرائيلية المتصاعدة لفرض الهيمنة المطلقة؟!
التحديات والضغوط
يتضح من قراءة الخطاب أن أولى رسائله تمثلت في تجديد الالتزام بخط المقاومة بوصفه ركيزة لا يمكن التفريط بها، إذ إنّ الشيخ قاسم حرص على وضع التهديد
الإسرائيلي في إطار مواجهة شاملة ضد "الضغوط"، ما يعني أن الحزب ينظر إلى التحديات التي يواجهها اليوم باعتبارها جزءًا من معركة كبرى تتجاوز الحدود اللبنانية، وهو بذلك يربط بين الخطر الإسرائيلي المباشر وبين محاولات داخلية وخارجية لتغيير هوية
لبنان الدفاعية.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ الخطاب حمل بُعدًا تعبويًا داخليًا واضحًا، من خلال دعوة الشيخ قاسم خصوم الحزب إلى "عدم الطعن في ظهر المقاومة"، في إشارة مباشرة إلى السجال المتجدّد حول ملف السلاح، وهو ما يؤشر إلى أن الحزب لا يطلب من خصومه القبول بسلاحه، بقدر ما يطلب منهم التوقّف عن استهدافه أو عرقلته، ما يعني أن حزب الله يضع نفسه في موقع المظلومية السياسية، في محاولة لكسب غطاء وطني ولو بالحدّ الأدنى، أقلّه في ظلّ استمرار العدوان.
ولعلّ ما يلفت الانتباه في الخطاب أيضًا يتمثّل في الهجوم المباشر على الدور الأميركي، من خلال وصف وساطة
واشنطن بـ"المتواطئة"، حيث يبدو أنّ "حزب الله" يسعى إلى وضع النقاش في إطار مواجهة مفتوحة مع واشنطن لا تقل خطورة عن المواجهة مع تل أبيب، وبالتالي القول إنّ أيّ تسوية مطروحة لن تكون محايدة، وأن وظيفة واشنطن هي الضغط لإضعاف المقاومة، لا لحماية لبنان، بدليل الإصرار على رفض إعطاء أيّ ضمانات للدولة مقابل سحب السلاح.
الوساطة "المتواطئة"
تتّضح دلالات الخطاب أكثر عند وضعه في سياقه الراهن، خصوصًا بعد جلسة الحكومة الأخيرة التي أفضت إلى تكريس مبدأ "حصرية السلاح"، عبر إقرار خطة الجيش، وسط ترحيب من "
الثنائي " رغم انسحابه من الجلسة. إلا أنّ الشيخ قاسم حين يقول "دعونا من مسألة الحصرية"، يعيد في مكان ما النقاش إلى النقطة الصفر، وهو ما يمكن لخصومه أن يستغلّوه للقول إنّ "حزب الله" يرفض منح الدولة حق احتكار القوة، وبالتالي الذهاب إلى مقاربات أخرى.
وفي السياق، لا يمكن قراءة الخطاب بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي المتوتر، على وقع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية في غزة والضفة، والعدوان الذي طال قطر، وهنا كان لافتًا حديث الشيخ قاسم عن مشروع "
إسرائيل الكبرى"، ما يُقرأ منه رسالة تؤكد على أنّ المواجهة لم تعد محصورة، وأنّ إسرائيل تريد فرض هيمنتها على كامل المنطقة، من دون أي حسابات أو اعتبارات، ولا خطوط حمر، وهو ما يتطلب مواجهتها بكل حزم وقوة.
أما دولياً، فقد حملت الإشارة إلى "تواطؤ" الوساطة الأميركية بعداً بالغ الأهمية. فهي تعني أن الحزب لا يرى في أي ضغوط أو مبادرات خارجية وسيلة للتسوية، بل يعتبرها جزءًا من أدوات المواجهة. وبهذا الموقف، يوجّه "حزب الله" رسالة واضحة إلى الداخل والخارج معًا: لا مكان لتسويات على حساب سلاح المقاومة، ولا استعداد للانخراط في أي مبادرات سياسية تحت الرعاية الأميركية، وهو موقف يُخشى أن يضاعف من حدة الانقسام الداخلي أكثر وأكثر.
في المحصّلة، يحمل خطاب الشيخ قاسم أكثر من رسالة، فهو من جهة يؤكد الاستمرارية في نهج المقاومة وثوابتها، ومن جهة أخرى، يكرّس المواجهة مع مبدأ "حصرية السلاح"، ما ينذر بتفاقم المواجهة الداخلية في المرحلة المقبلة، وسط مخاوف تزداد جدّية، بل مشروعية، من أن يكون لبنان مقبلاً على مرحلة من الصراع السياسي المفتوح، حيث تتقاطع حسابات الداخل مع ديناميات الخارج، في ظل غياب أي أفق واضح لتسوية تُرضي جميع الأطراف.