في لحظة بدت فيها الجلسة الحكومية وكأنها أعادت بعض الهدوء إلى الداخل، جاء الإعلان الأميركي عن حزمة مساعدات عسكرية للجيش بقيمة 14.2 مليون دولار ليذكّر بأنّ المشهد أبعد من كونه تسوية محلية. فطبيعة هذه المساعدات، بحسب ما تسرّب عن تجهيزاتها، لا توحي بدعم اعتيادي لمؤسسة مُنهكة، بل تحمل في طيّاتها رسالة واضحة مفادها أنّ
واشنطن ما زالت تُمسك بملف السلاح وتعيد صياغة دور الجيش بما يجعله جزءاً من خطة طويلة المدى للتعامل مع المخازن والبنى المرتبطة بسلاح "
حزب الله ". بهذا المعنى، تصبح الجلسة الحكومية مجرّد مشهد جانبي لا يُلغي الأجندة الخارجية بل يكمّلها، إذ يترك الداخل نفسه مُعلّقاً على إيقاع الخارج، من دون أن يمتلك القدرة الفعلية على حسم المسار.
وإذا كان ظاهر الخطوة الأميركية يوحي باندفاعة جديدة، فإنّ توقيتها يكشف في العمق عن حسابات أكثر برودة، إذ إنّ
الولايات المتحدة الاميركية لا تبدو في هذه المرحلة مستعدة لدفع الأمور نحو مواجهة مباشرة، بقدر ما تسعى إلى بناء أرضية تراكمية تسمح لها بالتحكم بالمسار لاحقاً. ومن هذا المنطلق، اختارت أن تمنح الجيش تجهيزات مرتبطة بملف السلاح، لكن من دون أن تُترجم ذلك إلى معركة آنية، وكأنها تقول إنّ المواجهة مؤجلة ولكن التحضير لها يسير بخطوات بطيئة ومدروسة. وبهذا المعنى، يشكّل التموضع الأميركي عملياً تراجعاً خطوة إلى الوراء عن الاندفاعة السريعة، لمصلحة تثبيت نقاط استراتيجية على المدى المتوسط.
وفي السياق نفسه، يبرز الموقف السعودي، إذ إنّ الرياض، وبعد مرحلة أظهرت خلالها حماسة واضحة للانخراط في الضغط على "حزب الله" عبر البوابة
اللبنانية ، بدت وكأنها بدأت تميل إلى الانكماش وإلى اعتماد سياسة أكثر حذراً. ويعود ذلك إلى أنّ
المملكة لا تريد أن تتحمّل كلفة مواجهة مبكرة قد تفشل وتتركها في موقع المكشوف، خصوصاً في ظل انشغالها بملفات إقليمية أخرى. لذلك، فإنّ التراجع السعودي لا يُقرأ كخروج من المشهد، بل كتعديل في وتيرة الاندفاعة، بحيث يستمر التنسيق مع
باريس وواشنطن ولكن بميزان أدق، يُبقي الضغط قائماً من دون الذهاب إلى كسر التوازنات الداخلية في
لبنان . ومن هنا، يتقاطع الحذر السعودي مع التمهّل الأميركي ليشكّلا معاً ما يشبه فرملة جماعية للاندفاعة السابقة، بانتظار ظروف أنسب تسمح بخطوات أكثر حسماً.
ويظهر هذا التعقيد في المواقف جلياً عند التوقف أمام الزيارة المرتقبة للموفد الفرنسي جان إيف لودريان، التي لا يمكن فصلها عن لقائه في باريس بمستشار
وزير الخارجية السعودي الأمير يزيد بن فرحان، بما يعكس تنسيقاً ثلاثياً بين باريس والرياض وواشنطن. غير أنّ هذا التنسيق، بدل أن يشي باندفاعة موحّدة، يكشف مقدار الحذر الذي يغلّف كل تحرّك. ففرنسا تحاول، وفق المعلومات، الدخول من البوابة الاقتصادية تفادياً لانفجار سياسي قد يطيح بمبادرتها، والسعودية تراقب من موقع الشريك المتحفّظ الذي لا يريد أن يتحمّل وزر مواجهة مباشرة، فيما الأميركيون يواصلون إرسال إشارات متناقضة، إذ يرفعون مستوى المساعدات الأمنية للجيش لكنهم يضبطون إيقاعها بدقة حتى لا تتحوّل إلى صدام شامل.
وعليه، لا يمكن قراءة ما جرى في
مجلس الوزراء إلا كاستراحة مؤقتة داخل مسرح أكبر تتحكّم به حسابات الخارج. فالمعادلة الداخلية لم تتغيّر، و"حزب الله" لا يزال متمسّكاً برفض أي مساس بسلاحه، في حين تُدار اللعبة الإقليمية بميزان حساس بين خطوات محسوبة وضغوط مؤجلة. وما يظهر للعلن على شكل تهدئة ظرفية، ليس إلا طبقة رقيقة تغطي صراعاً أعمق لم يُحسم بعد، فيما كل المؤشرات تدلّ على أنّ ما حصل ليس نهاية أزمة، بل بداية مرحلة أشدّ تعقيداً يُراد لها أن تُدار بحذر إلى أن تحين لحظة الحسم.