من يراقب وتيرة الحركة السياسية قبل الخامس من أيلول وبعده يلاحظ أن ثمة تطورًا لافتًا يحصل على أرض الواقع. وهذا التطور لا يمكن مقاربته إلاّ من خلال القراءة المتأنية لما بين السطور. ومتى يكتشف المتبصّر بأن ثمة قطبًا مخفية تربط بين ما كان وما صائر إليه الوضع اللبناني تنقشع الغيوم من أمام عينيه، ولا يعود يرى سوى ما يتناسب مع ما هو قائم حاليًا، وارتباطًا بما هو آتٍ مستقبلًا.
وفي هذا الإطار يقول أحد المتابعين للحركة الداخلية المتناغمة مع مساعي انتشال
لبنان من مستنقع الانهيار بأن لبنان قطع شوطًا مهمّا في مسيرة استعادة عافيته التدريجية. ويكفي إجراء مقارنة سريعة بين ما كان سائدًا قبل سنة وبين الوضع السائد اليوم حتى تتوضح الصورة لما يمكن أن تكون عليه الأمور بعد سنة من الآن، خصوصًا إذا توافرت للساعين إلى الأهداف القريبة والبعيدة المدى، التي يُعمل عليها، الظروف الدولية والإقليمية المؤاتية والمسهّلة.
ويعترف هذا المتابع بأن أي تحسّن لن يكون بكبسة زر. فالمشاكل والأزمات المتراكمة كثيرة. ويتطلب فكفكتها المزيد من الوقت والكثير من الجهد اليومي المتواصل، والكثير من الايمان والصبر. ومن يراقب الحركة اليومية لرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون يتملكه شعور مغمور بجرعات تفاؤلية بأن ما هو آتٍ سيكون أفضل نسبيًا مما هو عليه الوضع اليوم، وبالتأكيد أفضل بكثير مما كانت عليه الحال قبل سنتين.
هذه الصورة ليست سوريالية. بل هي نتيجة طبيعية لثلاث جلسات. الأولى، والثانية تأسيسية، والثالثة واقعية. وقد تكون الجلسة الثالثة بشموليتها أكثر ارتباطًا بما يمكن أن تكون عليه وضعية كل طرف من الأطراف
اللبنانية على حدة ومجتمعة في آن.
فـ "
حزب الله " الرافض تسليم سلاحه من تلقاء نفسه من حيث المبدأ سيجد بعد حين أنه ملزم بالتسليم بالأمر الواقع، خصوصًا إذا تيّقن أن الجيش ماضٍ في تنفيذ الخطة، التي أعدّتها قيادته وكُلف بقرار سياسي التقيد بما جاء فيها، والتي يؤكد المطلعون عليها أنها ستؤدي، ولو بعد حين، إلى سحب كل الأسلحة غير الشرعية من الجميع، لبنانيين وفلسطينيين.
فالاعتقاد السائد في الوسط السياسي أن عقارب الساعة اللبنانية لن تعود إلى الوراء، وأن قرار سحب السلاح غير الشرعي من جميع حامليه أمر قد أصبح من المسلمات في الاجندة الدولية والإقليمية، وأن "حزب الله" سيجد نفسه مضطرًّا للتجاوب مع تلاقي الرغبتين الداخلية والخارجية في بسط سلطة
الدولة على كامل التراب اللبناني من دون أي شريك آخر، خصوصًا إذا ما سارت رياح المفاوضات الأميركية –
الإيرانية على غير ما تشتهيه "حارة حريك".
وفي المعلومات المستقاة من الاعلام الأميركي أن عجلة هذه المفاوضات ستنطلق من جديد بعد تحديد أجندة الأولويات بما يتناسب والدور المعدّ لطهران في المنطقة، وذلك استنادًا إلى ما تكّون لدى الإيرانيين من قناعة بعدم جدوى الخيارات العسكرية والأمنية حتى ولو أن التصريحات العلنية لا تعكس حقيقة هذا الجو السائد في الأوساط الإيرانية، خصوصًا بعد الحرب الأخيرة بين
إيران وإسرائيل.
وفي رأي هذه الأوساط أن أهمّ ما في هذه الحال الجديدة، التي يعيشها لبنان، هو مدى وعي جميع الأطراف أبعاد ما سيقدم عليه الجيش في المراحل الثلاث الواردة في خطّته، وما يمكن أن تؤول إليه التطورات المتسارعة لجهة تثبيت دعائم المؤسسات الشرعية الأصيلة لا البديلة من ضمن مشروع متكامل لا تتأمن ظروف نجاحه إن لم يلقَ شبه اجماع لبناني.
فعملية الإنقاذ مسؤولية جميع الأطراف السياسية وليس من مسؤولية أهل السلطة فقط. ولكي لا تبقى هذه العملية مجرد شعار تبنّته الحكومة الحالية مستنسخة ذلك من شعارات سابقة فإن أي تهاون في تطبيق القوانين المرعية الاجراء على جميع اللبنانيين من دون تمييز أو تفرقة في المعاملة قد يقود إلى انقلاب السحر على الساحر، أي بمعنى أن حكومة "الإنقاذ والإصلاح" ستلجأ إلى من ينقذها أولًا، وإلى إصلاح ذات البين ثانيًا.
ليس المطلوب اليوم استنساخ ما كانت تواجه به سلطات الوصاية الداخلية من ممارسات في حق الذين كانوا ينادون بالسيادة والحرية والكرامة. فأساليب الماضي القمعية لم تنفع بالأمس، ولن تنفع اليوم.
فـ "حزب الله" الذي يطالب بضمانات دولية بعدم تعرّض أهل الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت لأي اعتداء بعد أن يسّلم سلاحه لن يجد أهم من الوحدة الوطنية كضمانة أكيدة لجميع اللبنانيين، وليس فقط لأبناء المناطق ذات الأكثرية الشيعية.