مقترح إنشاء "منطقة ترامب الاقتصادية" جنوب لبنان ، ورد للمرة الأولى من خلال تسريب إعلامي في موقع "أكسيوس" الأميركي، بصيغة "النقل عن مصادر مطلعة". في حينه لم يكن أي مسؤول أميركي قد تداول به، وبعد أيام من معلومات أكسيوس، تطرق إليه الموفد الأميركي توم براك في زيارته للبنان، بحديثه عن منطقة صناعيّة اقتصاديّة لخلق فرص عمل لأعضاء حزب الله "لمساعدة مقاتلي حزب الله الذين يتلقون أجرًا من إيران ومن الحزب، علينا أن نتمكّن من مساعدتهم جميعًا، وسنعمل معًا من خلال خلق وإنشاء صندوق اقتصادي سيؤمّن الرزق والحياة، وسيكون موجودًا إن كانت إيران تريد ذلك أم لا".
قد يكون الإعلان عن المقترح في موقع إعلامي أميركي، بهدف جس نبض الأفرقاء المعنيين به لبنانيًّا وإقليميًّا، وإن كان الطرح ليس جديدًا، إذ يأتي ضمن نمط تعتمده إدارة ترامب في السياسة الخارجيّة، من منطلق الترويج لمفهوم التنمية الاقتصاديّة المرتبطة بتحوّلات جيوسياسيّة، وتقديمه كحلول تنهي النزاعات. المنطقة الاقتصاديّة هذه، سبقها طرح مماثل على لسان الرئيس الأميركي نفسه، عندما اقترح في شباط الماضي ما سماه "ريفيرا غزة"، من خلال إعادة تأهيل القطاع كمنتجع فاخر يشبه الريفيرا الأوروبيّة، وهو شعار جذّاب يستبدل جحيم غزة بالرخاء وفق توصيفه، ولكنّه في الحقيقة لا يمثل سوى وجه آخر للمخطط
الإسرائيلي القائم على تهجير الغزاويين من أرضهم وترحيلهم إلى دول أخرى، وقد وصفته
الأمم المتحدة بأنّه "تطهير عرقي" ومحاولات "تهجير قسري" للسكان.
قد يكون الطرحان، "ريفيرا غزة" و"المنطقة الاقتصادية جنوب لبنان"، مختلفين في الغايات والسياق، ولكنّهما متشابهين في سياسة الاعتماد على الدافع الاقتصادي والإغراءات التنموية كأداة للتغيير السياسي. "مقترح ترامب لجنوب لبنان هو عبارة عن خلق منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي بين لبنان وفلسطين المحتلة خالية من السكان، تمثّل من الناحية الاستراتيجية لحكومة
إسرائيل منطقة منزوعة السلاح، يتمّ تحويلها إلى صناعيّة، يقصدها العمال اللبنانيون للعمل في المصانع، ومن ثم يعودون إلى منازلهم خارج هذه المنطقة"وفق ما لفت الكاتب السياسي جورج علم، مشيرًا في حديث لـ "
لبنان 24 " إلى البعد المصيري لهذا الطرح "هو اعتداء على السيادة اللبنانيّة، كونه يقوم على اقتطاع جزء من الأراضي، من خلال العودة إلى لغة ما يسمى بالصفقات والحلول العقارية. وهذا الطرح لا يتحمّله لبنان، لما يمثّل من خطر وجودي كبير". برأي علم قد يقود هذا المقترح إلى تغيير الخرائط، وسيكون له تأثيرات على الوحدة الداخليّة ومصير التراب اللبناني "في اعتقادي هذا الأمر مرفوض بالمطلق من قبل جميع اللبنانيين، لكن إذا كانت التطورات سوف تفرض نفسها كأمر واقع لتثبيته، فسنكون عندها أمام واقع خطير، علمًا أنّ لبنان الرسمي وكما قال رئيس
جمهورية لم يتبلغ أي إشعار بهذا المعنى".
تقّدم الإدارة الأميركية بقيادة ترامب نهجًا مغايرًا في التعامل مع النزاعات بين الدول، من منطلق توظيف الأراضي كفرص تنمويّة مربحة، هذا ما فعله ترامب مؤخرًا في رعايته توقيع اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا قبل ثلاثة أسابيع، عبر تثبيت ممر تجاري جديد في جنوب القوقاز، يحمل اسم "طريق ترامب للسلام والازدهار الدولي" (TRIPP)، أو ما عرف بجسر ترامب، مُنحت بموجبه واشنطن إدارة ممر زنغزور الإستراتيجي. وكون المسار الجديد للطريق يلتصق بالحدود الجنوبية لأرمينيا مع إيران، فمن شأنه أن يضع
الولايات المتحدة عبر امتياز التشغيل في موقع إستراتيجي على تماس مباشر مع الحدود الإيرانيّة.
يعود علم إلى المنهجيّة التي يعتمدها ترامب "كمطور عقاري ناجح، يحاول إيجاد حلول للأزمات الدوليّة عن طريق العقارات. وهذا فعليّا ما يقوم به بين
روسيا وأوكرانيا، مطالبًا الدولتين بتبادل الأراضي لإنهاء النزاع. هذا الأسلوب الجديد في الدبلوماسيّة العالميّة، يكرّس بعدًا خطيرًا، لجهة إيجاد حلول على حساب سيادات الدول وأراضيها". علم لفت إلى أنّ ما يجري في غزة من تهجير بالكامل، وصولَا إلى تنفيذ ما يُسمّى "ريفيرا غزة". وإذا كان الشريط الحدودي الذي تتحدث عنه الإدارة الأميركية في لبنان سيندرج تحت مُسمّى منطقة ترامب الصناعيّة، قد نكون أمام غزة ثانية، وهذا أمر خطير للغاية، وباعتقادي تحتاج الأمور إلى المزيد من المتابعة والاهتمام، خصوصًا أنّ خلفيات الطرح تؤثر على مستقبل لبنان وسيادته".
عن مدى قابلية مشروع ترامب للتنفيذ في الجغرافيا اللبنانيّة الجنوبيّة، بظلّ تمسّك الجنوبيين بأرضهم، لفت علم إلى أنّ المشروع يشكل تحدّيا ليس فقط للجنوبيين بل لجميع اللبنانيين، لأنّ الأمر يتعلق بمصير كلّ الفئات اللبنانيّة من دون استثناء "تحويل هذه المنطقة إلى منطقة عازلة يقلّص السيادة
اللبنانية ، وتصبح مساحة الـ 10452 كيلو متر مربع في مهب الريح، فضًلا عن مخاطر المشروع على الوحدة الوطنية. من هنا، يتوجب على كل الفئات اللبنانيّة أن تتعطى مع الطرح بكثير من الموضوعية وبرؤوس باردة، نظرًا لتبعاته الخطرة على مستقبل لبنان ومصيره".
ختم علم بالقول "هذا موضوع مصيري، ونرى ما يجري على مستوى العالم، فإذا ذهبت أوكرانيا باتجاه ترجمة طرح ترامب في تبادل الأراضي، وكذلك غزة، هناك مخاطر من تكريس شريط حدودي فيلبنان، في ظلّ الدعم
الاميركي المطلق لإسرائيل، وتفوّقها العسكري، خصوصا وأنّها تتحدى كلّ الدول المحيطة بها، بما في ذلك دول
الشرق الأوسط ، وتتحدّث عن إسرائيل الكبرى، كنوع من التوسّع في ظل الصمت الدولي، والعجز الأممي. لذلك كلّه أرى أنّ الأمور مصيريّة ودقيقة وخطيرة للغاية".
بالمحصّلة، لا شكّ أنّنا أمام دبلوماسية أميركية غير تقليديّة، تقارب النزاعات الدوليّة بوصفها فرصًا استثمارية، وتحوّل الملفات الجيوسياسيّة إلى مشاريع تنمويّة بأدوات اقتصاديّة جاذبة، لتحقيق مكاسب استراتيجيّة قائمة على منطق الصفقات، وسط مخاوف من تهميش القرارات الوطنيّة وحق الدول في إدارة أراضيها وثرواتها بمعزل عن الضغوط الخارجيّة.