تزامنت الذكرى الخامسة لتفجير مرفأ
بيروت وما تركه من مآسٍ بشرية ومادية توازي بحجمها الكارثي ما خلفته الاعتداءات
الإسرائيلية في قرى الحافة في الجنوب وفي الضاحية الجنوبية للعاصمة وفي البقاع مع إقرار مجلس النواب قانون استقلالية
القضاء ، وكذلك مع إقرار صيغة توافقية للتشكيلات القضائية، التي كانت محمّدة طيلة سنوات.
ففي هذه الذكرى الاليمة لا تزال بيروت "عروسة البحر الأبيض المتوسط" تلملم جراحها التي لم تندمل بعد، ولا يزال أهالي الضحايا ينتظرون القرار الظني المؤجل حتى اشعار آخر.
خمسة أعوام مرّت وهذا القرار لم يصدر بعد وكأنّ ضحايا التفجير المئتين والثماني عشر ليسوا سوى مجرد ارقام في سجل دولة مغيّب قرارها ومصادر، خصوصًا أن المحقق العدلي القاضي طارق البيطار لا يزال يحتفظ بصمته، ليس لأن الملف غير مكتمل، بل لأن المسار القضائي نفسه "مخطوف"، وهو لا يزال أسير منظومة سياسية – قضائية متشابكة، أتقنت فن تعطيل العدالة على مدى سنوات، فتحّول مسار التحقيق إلى ساحة اشتباك دستوري وسياسي على خلفيات أمنية.
فمنذ لحظة تكليفه، واجه القاضي البيطار حملة مضادة ممنهجة ضده. استُهدِف قضائياً بدعاوى الرد والمخاصمة، وشُلّ عمله بفعل غياب هيئة محكمة التمييز، ثم جرى عزله عملياً بعدما قرر استئناف التحقيق من طرف واحد في كانون الثاني 2023، مستنداً إلى اجتهاد قانوني غير مسبوق. عندها، انفجرت أزمة داخل السلطة القضائية نفسها، وانقسم الجسم العدلي على ذاته، فيما امتنعت النيابة العامة التمييزية عن تنفيذ مذكراته، وتخلّت المؤسسات الأمنية عن دورها التنفيذي، فبات الرجل محاصراً من الجهات الأربع.
فهذا التحقيق قد تحوّل بقدرة "قادر" إلى رهينة سياسية بامتياز. وبدلًا من أن تمثل القوى المتّهمة، ولو نظريًا، أمام العدالة لجأت إلى ما تتمتع به من حصانة، ورفعت شعار "الاستهداف السياسي"، فخنقت الملف في مهده. ولم يعد النقاش في
لبنان محصورًا بالسؤال عمّن فجّر المرفأ، بل على من يجرؤ على قول الحقيقة.
وعلى رغم هذا الواقع لا يزال أهالي الضحايا يتمسّكون بحقّهم في معرفة الحقيقة كاملة وغير منقوصة. يخرجون إلى الشارع كل عام، يرفعون صور ضحاياهم. يذرفون الدموع. ومع كل دمعة يتكرّر السؤال ذاته: "من قتل أبناءنا؟". ويبقى السؤال من دون جواب، لأن الدولة بمفهومها العام، والتي يُفترض أن تكون راعية للعدالة، وقفت متفرّجة، بل متخاذلة أحياناً. تحسب خطوتها لا بناءً على المبدأ والعدالة غير المجزأة، بل وفقاً لتوازنات طائفية وحسابات انتخابية.
في موازاة ذلك، يكثر الحديث عن تحقيق دولي أو دولي- محلي. لكن لا المؤشرات تؤكد جدّية ذلك، ولا ميزان القوى يسمح بهذا المسار. ما يعني أن الحقيقة ستبقى معلّقة، تنتظر إرادة سياسية غير متوافرة حتى الآن، فيما القضاء لا يزال غير محرر من الضغوطات السياسية.
فالتفجير لم يكن مجرد حادث عرضي، على حدّ ما يقوله كثيرون. فهو جريمة دولة، بحجم وطن، ووصمة عار في جبين النظام بأسره. وإذا لم يُحاسب المسؤولون عن هذا التفجير، فإن ما تبقى من ثقة بين المواطن ودولته سينهار كليًا. فالدولة التي لا تحمي أبناءها بالقانون وقوة العدالة ستواجه حتمًا بغضب الشعب.
ففي هذه الذكرى الأليمة، وهي الخامسة على التوالي، لا شيء يبلسم
الجراح ويريح أرواح الضحايا أكثر من تحقيق العدالة، التي لا تزال مغيّبة. فلا نُصبٌ تذكاري يُجدي، ولا شعارات تواسي، إن لم تُرفق بقرار ظني شجاع، يفتح الباب لمحاسبة عادلة، مهما علا شأن المرتكبين.
ويبقى السؤال عن الأسباب التي لا تزال تحول دون إصدار القاضي البيطار قراره الظني من دون جواب شافٍ ومقنع، مع
العلم أن السبب
الرئيسي معروف ولا يحتاج إلى دلائل أو قرائن. فهذا القرار مجمّد وحتى اشعار آخر لأن ثمة قرارًا في مكان ما بالتعطيل الممنهج والمركّب. تعطيل سياسي، وقضائي، وأمني. وهذا التعطيل هو دليل آخر على انعدام الثقة بين الناس من جهة وبين دولتهم وقضائهم وسياسييهم من جهة أخرى. وبغياب سلطة تنفيذية مستقلة وجريئة ومسؤولة عن قرارها، وبغياب إرادة سياسية حقيقية، يُخشى أن يبقى هذا الملف مجمّدًا إلى أن يحين الوقت المنتظر. ويقول بعض العارفين أنه بعد التشكيلات القضائية الجديدة، وبعد سريان مفعول قانون استقلالية القضاء، فإن القاضي البيطار سيجد نفسه محرّرًا من كل القيود، التي كانت تحول دون إصدار قراره الظني، الذي سيكون على أغلب الظن مفاجئًا للجميع بما سيتضمّنه من حقائق ستكشف للمرّة الأولى بعد طول تغييب ومحاصرة.
ويبقى الامل في ما قاله رئيس الجمهورية جوزاف عون صباح اليوم" من اننا نعمل بكل الوسائل المتاحة لضمان استكمال التحقيقات بشفافية ونزاهة، وسنواصل الضغط على كل الجهات المختصة لتقديم كل المسؤولين إلى العدالة، أياً كانت مراكزهم أو انتماءاتهم"، متوجها الى عائلات
الشهداء والجرحى بالقول"إن دماء أحبائكم لن تذهب سدى، وآلامكم لن تبقى بلا جواب. العدالة قادمة، والحساب آت، وهذا وعد قطعته على نفسي أمام الله والوطن".