يُعرف عن رئيس حزب "
القوات اللبنانية " الدكتور سمير جعجع أنه يعرف كيف يستفيد من الفرص السانحة لكي يحقّق ما يخطّط له سياسيًا. وهذا ما فعله بالفعل عندما قرّر أن يزور الوزير السابق وليد جنبلاط، ليقف إلى جانبه في المحنة الدرزية في محافظة السويداء
السورية وما لها من تداعيات على الوضع الدرزي في
لبنان ، وبالأخصّ في منطقة الجبل، حيث للوجود المسيحي حضور فاعل في المسؤولية التشاركية للحفاظ على "وحدة الحال" في هذه المنطقة، التي شهدت أبشع أنواع الحروب والتهجير بين "القوات
اللبنانية " و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، وما تبعها من مصالحة تاريخية بين الموارنة والدروز، والتي رعاها المثلث الرحمات البطريرك مار نصرالله بطرس صفير بالتنسيق والتعاون بين فعاليات المنطقة، ومن بينهم بالطبع وليد جنبلاط وسمير جعجع، ومن دون إغفال دور "
التيار الوطني الحر ".
وقد لاقت زيارة جعجع صدىً إيجابيًا من قِبل جنبلاط، في محاولة منه لإعادة عقارب ساعة التحالفات السياسية السابقة بين "القوات" و"الاشتراكي" إلى مناخات 14 آذار من العام 2005.
إلاّ أن التطورات المتسارعة على الساحة السياسية قد باعدت بين الطرفين، ولكنها لم تحل دون استمرار العلاقة بينهما منتظمة، وذلك لما بينهما من مساحات مشتركة، ومن بينها الموقف من "
حزب الله " والمحور
الإيراني ، إذ أن كلًا منهما ينتقد بطريقة مختلفة هيمنة "حزب الله" على القرار اللبناني. كما انهما يلتقيان على المطالبة بقيام دولة فعلية ذات سيادة تملك وحدها حصرية السلاح.
أمّا في ما يتعلق بموقفهما من التموضع الاستراتيجي في المنطقة، فهما متقاربان في الرهان على الغرب، وخصوصًا على فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، ولكن بأساليب تعبير مختلفة، إضافة إلى أنهما يميلان إلى الاعتدال السياسي مقارنة بالقوى الأكثر تشددًا.
وفي مسألة الرهان على الدولة المدنية فإن كلًا من "القوات" و"الاشتراكي" يشتاركان إلى حدود بعيدة في نظرتهما إلى الخطاب الإصلاحي، والذي يدعو إلى دولة مدنية وإصلاح المؤسسات، فضلًا عن احتفاظهما بنسب متفاوتة بعلاقة وثيقة مع قوى سياسية لا تزل محسوبة على
تيار "
المستقبل "، وما يمكن أن يقوم بينهم من تحالفات "على القطعة" في منطقة إقليم الخروب.
إلاّ أن ما يميّز العلاقة بين الطرفين الأكثر تمثيلًا مسيحيًا ودرزيًا في منطقة الجبل فهو الخطاب التصالحي في هذه المنطقة الحسّاسة، ولذلك فهما يحرصان على عدم تأجيج التوتر المسيحي – الدرزي، خصوصًا بعد مصالحة الجبل.
ولكن هذه المساحة المشتركة بين الرجلين كممثلين لشريحتين كبيرتين من مكونات الجبل لا تعني أن ليس بينهما خلافات قد تمّ التعبير عنها في أكثر من محطة سياسية، أولًا من حيث الأسلوب السياسي في التعاطي مع الوقائع، إذ أن جنبلاط يميل في مواقفه أكثر إلى البراغماتية والتسويات، ويبدّل تحالفاته حسب موازين القوى، فيما يبدو جعجع أكثر تشددًا وثباتًا في تحالفاته، وأقل مرونة في تبديل المواقع. وما يباعد بينهما يتمظهر من خلال كل ما له علاقة بالخطاب السيادي. فعلى رغم التقاطع بينهما في الرؤية العامة، إلا أن جعجع يبدو أكثر تصعيدًا في لهجته ضد "حزب الله"، بينما يعتمد جنبلاط لهجة هادئة نسبيًا.
وعليه، هل يمكن أن يؤدّي اللقاء الأخير بين القطبين اللدودين الدرزي والمسيحي إلى نتيجة عملية في الانتخابات النيابية المقبلة في الجبل؟
هذا الاحتمال يبقى ورادًا ومتوقعًا، ولكن بشروط يضعها كل من الفريقين على طاولة البحث والتشريح. فإذا تقاطع الحساب الانتخابي مع الحاجة إلى التماسك في وجه تحالف "
التيار الوطني الحر" – "حزب الله"، في حال تلاقت مصالحهما الانتخابية، فقد يحصل تحالف انتخابي في الجبل بين "الحزب الاشتراكي" والقوات"، كما حصل في محطات سابقة، ولكل منهما حساباته الانتخابية الخاصة به. فوليد جنبلاط سيحاول تأمين كتلة نيابية وازنة، وسيحتاج في ذلك إلى دعم مسيحي في بعض الدوائر. وهذا الدعم يمكن أن تؤّمنه له القوة التجييرية لـ "القوات".
أمّا بالنسبة إلى جعجع فإن التحالف مع جنبلاط فيمكن أن يعزّز حضوره في الشوف وعاليه وحتى في دائرة بعبدا، مقابل تجنّب خوض معركة طاحنة مع الزعامة الدرزية الأكثر شعبية، خصوصًا بعد حوادث السويداء.
فاللقاء بين جعجع وجنبلاط يعكس محاولة لإعادة ضبط التحالفات استعدادًا لاستحقاقات مقبلة، أهمها الانتخابات النيابية، إذا حصلت. وعلى رغم التباينات في المقاربة السياسية، قد تدفع المصلحة الانتخابية المشتركة إلى تفاهم موضعي، خصوصًا في دائرتي الشوف وعاليه. أمّا إذا لم تنضج ظروف التحالف فقد يختار الطرفان التنسيق غير المباشر أو إدارة التنافس بحدّه الأدنى، وذلك على خلفية الحفاظ على الاستقرار والسلم الأهلي واستعادة خطاب البطريرك صفير التصالحي.