تبدو زيارة الموفد الأميركي توم براك الثالثة إلى
بيروت ، "مكمّلة" لزيارته السابقة، خصوصًا أنّها لم تحمل في الجوهر الكثير من المفاجآت، في ظلّ المراوحة في المواقف، لكنّها تكرّس منحى واضحًا من الضغط السياسي المتصاعد على
لبنان ، تحت عنوان تسليم سلاح "
حزب الله " وفقًا لجدول زمني واضح، بعيدًا عن أيّ مماطلة، في واحدة من أكثر المراحل تعقيدًا منذ انتهاء الحرب
الإسرائيلية الأخيرة على لبنان.
لكن، على الرغم من أنّ الزيارة جاءت تحت عنوان "استكمال المشاورات"، فإنّ ما رافقها من مواقف وتصريحات ومروحة لقاءات، يعكس ما هو أبعد من جولة دبلوماسية روتينية، ويكشف عمق الرهان الأميركي على "تحريك" الوضع اللبناني من بوابة الداخل، علمًا أنّ براك كان مباشرًا حين قال في تصريحاته بعد لقائه رئيس الحكومة نواف سلام في السراي الحكومي، إنّ
واشنطن تعتبر لبنان "مفتاح الاستقرار" في المنطقة.
لكن، في مقابل هذه الرسالة الإيجابية، حملت تصريحات الرجل رسالة ضغط غير مباشر، حين قال إنّ بلاده "لا تملك القدرة على إرغام
إسرائيل على فعل شيء"، وهو ما فُسّر رفضًا ضمنيًا لمطالب لبنان الرسمية، بضرورة أن تبادر إسرائيل إلى اتخاذ خطوات ملموسة أولاً، فهل تريد أميركا إنجاز مهمّة سحب السلاح من دون ضمانات حقيقية، أم أنّها فعلاً عاجزة عن التأثير على أحد طرفي النزاع، ما من شأنه أن يفرغ الوساطة من مضمونها؟!
لا جديد على الطاولة
في قراءة الزيارة ومداولاتها، أقلّه حتى الآن، يمكن القول إنّ المبعوث الأميركي لم يأتِ بجديد، لا في موقفه من النزاع الحدودي، أو التصعيد المستمرّ على
الجبهة الجنوبية، ولا في غيره من الملفات، بل إنّه اكتفى بكلام فضفاض عن "أمل أميركي" في أن يتخذ اللبنانيون قرارات شجاعة تجاه مستقبلهم، قبل أن يوضح، بصراحة، أن
الولايات المتحدة "لا تقدّم ضمانات" ولا تفرض حلولًا، وأن كل ما في جعبتها هو تقديم "النصائح".
بهذا المعنى، لا يُنتظَر من هذه الزيارة أن تفضي إلى نتائج، بخلاف ما قيل عن كونها مفصلية وحاسمة، إذ يبدو أنّ الهدف منها ليس سوى "تكثيف الضغط" على الداخل اللبناني، وبالتالي دفع الدولة إلى المضيّ إلى الأمام في تنفيذ بند حصر السلاح بيدها، وتقديم تصوّر كامل للجدول
الزمني لذلك، مقابل احتمالات لا تتجاوز مستوى النيات، في وقتٍ تعيش فيه المنطقة على صفيح ملتهب، ولا يبدو أن إسرائيل مستعدّة لتقديم أي تنازل جوهري.
بيد أنّ الجديد الذي يمكن التوقف عنده في هذه الزيارة، هو بتوسيع مروحة اللقاءات التي عقدها الرجل، أو المطروحة على جدول أعماله، وهو ما يشي بأنّ الرجل لا يسعى فقط إلى استطلاع المواقف، بل إلى فرزها وتقييم مدى تماسك الجبهة الداخلية حيال الطروحات الأميركية، علمًا أنّ "الفرز" يبدو واضحًا بين قوى تتبنّى السردية الأميركية، وأخرى تبدو أقرب إلى موقف "حزب الله"، برفض التفريط بعناصر القوة مقابل "لا شيء".
رسائل مشفّرة وخيارات مفتوحة
بعيدًا عن التصريحات العلنية، بدت زيارة براك أشبه بحركة "جسّ نبض" إضافية، تستكمل المسار الذي بدأ منذ زيارته الأولى، بين ورقة المقترحات الأميركية والرد اللبناني عليها، وصولاً إلى الردود على الردود. أما اليوم، فإنّ الحديث بات أكثر مباشرة حول ضرورة بلورة "خطة تنفيذية" لحصر السلاح، مع التركيز على التزامات سبق أن تمّ النقاش حولها في محطات سابقة، تحديدًا منذ اتفاق الهدنة في تشرين الثاني الماضي، الذي تعترف واشنطن بفشله.
في المقابل، لم يتبلور حتى الآن موقف لبناني موحّد من هذه الطروحات. ففيما ترى بعض الأطراف أنّ التعامل مع المطالب الأميركية من موقع "التجاوب الإيجابي" قد يفتح أبوابًا مغلقة أمام الدعم الدولي، تصرّ أطراف أخرى على أنّ الانطلاق في أي مسار من هذا النوع يفترض بداية معالجة الخروقات الإسرائيلية المستمرة، وتثبيت قواعد الاشتباك، والتزام واشنطن نفسها بدور الوسيط، لا الطرف الذي يضغط باتجاه واحد.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد حرصت على تقديم طرحها على أنه "مجموعة نصائح"، مع رفض براك الحديث عن "عواقب" لعدم تسليم السلاح، بعيدًا عن "خيبة الأمل"، فإنّ بعض المراقبين يعتبرون أنّ استحضار الحديث عن دعم اقتصادي واستقرار طويل الأمد، ربطًا بالتطورات الأمنية، يعكس توجّهًا لإرساء نوع من المقايضة السياسية غير المعلنة، قوامها سحب عناصر القوة الداخلية مقابل احتمالات غير مؤكدة.
في الخلاصة، لا تحمل زيارة براك الثالثة إلى بيروت أي تبدّل جوهري في الموقف الأميركي، بقدر ما تؤشّر إلى انتقال الضغط من العنوان العام إلى التفاصيل العملية، وتكريس منحى سياسي يربط المساعدات والاستقرار بموقع لبنان من معادلة السلاح والحدود. فهل ينجح لبنان في إنتاج مقاربة متماسكة توازن بين الضرورات السيادية والضغوط الدولية، وتبقي على أوراق القوة الممكنة في مواجهة واقع إقليمي لا يزال يتغيّر بسرعة؟!