في ذكرى عاشوراء، التي جاءت مختلفة هذا العام، بغياب الأمين العام السابق لـ" حزب الله " السيد حسن نصر الله، الذي اعتاد أن تكون إطلالاته من ثوابت المناسبة، حيث يحدّد فيها المواقف ويرسم السياسات، أطلّ "خليفته" الشيخ نعيم قاسم ، ليكرّر بعضًا ممّا كان يقوله من "أننا قومٌ لا نُهزَم ولا نخضع"، لكنّ هذا الشعار اكتسب هذه المرّة دلالات تفاوضية، في ضوء الاشتباك السياسي حول مصير السلاح، واحتمالات تسليمه.
في خطابه الذي بدا أنّه ردّ مباشر على الضغوط الداخلية والخارجية المتصاعدة لتسليم سلاح الحزب، ومن دون أيّ ضمانات مقابلة، أعلن قاسم بوضوح أنّه "لا يمكن أن يُطلب منا تليين المواقف أو ترك السلاح في ظل استمرار العدوان"، مشدّدًا على أنّ "على
إسرائيل تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار أولاً وبعدها ننتقل إلى تطبيق القرار 1701"، ولافتًا إلى أنّ "الدفاع عن بلدنا سيستمرّ حتى لو اجتمعت الدنيا بأجمعها لثنينا".
وبصراحة واضحة، قال قاسم إنّ أيّ نقاش يجب أن يكون مؤجّلاً إلى المرحلة الثانية، التي تعقب تنفيذ إسرائيل لاتفاق وقف إطلاق النار، وفي هذه المرحلة سيكون "حزب الله" حاضرًا "ليناقش الأمن الوطني والاستراتيجية الدفاعية"، قائلاً: "لدينا من المرونة ما يكفي، من أجل أن نتراضى ونتوافق، لكن اتركونا وحدنا"، فهل أراد بذلك الإعلان عن رفض "حزب الله" لخطة توم برّاك، وربما لردّ الدولة
اللبنانية عليها أيضًا؟
رسالة مزدوجة.. تطمين القاعدة وتثبيت الشروط
في توقيته، بدا خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" مهمًا، فهو جاء عشية زيارة المبعوث الأميركي توم برّاك إلى
بيروت ، الذي سبق أن سلّم المسؤولين اللبنانيين رسالةً من الإدارة الأميركية طلب فيها التزاماً رسمياً بنزع سلاح "حزب الله" قبل نهاية العام، وجاء أيضًا على وقع المفاوضات الداخلية لصياغة الردّ اللبناني "الموحّد" على هذه الرسالة، وكذلك التهويل
الإسرائيلي المتصاعد بتوسيع العدوان، وهو ما يترجمه بغاراته المكثفة في أكثر من مكان.
أما من حيث المضمون، فتتوزّع رسائل الخطاب على أكثر من اتجاه، إذ ثمّة من يقرأ فيها محاولة لطمأنة البيئة الحاضنة لـ"حزب الله"، والتأكيد بأنّ الحزب لا يفاوض من موقع ضعف، وأنّه لن يتخلّى عن ثوابته، ومنها السلاح، إلا ربما في إطار استراتيجية دفاعية يأتي وقتها في مرحلة ما بعد اتفاق وقف إطلاق النار، في رسالة ضمنية إلى بيئته الحاضنة، بأن الحزب ما زال قويًا، وقادرًا على فرض الشروط، رغم كلّ ما أفرزته الحرب الأخيرة من معادلات مستجدّة.
في المقابل، ثمّة من يرى في الخطاب "مناورة" في مكانٍ ما، أولاً من خلال تثبيت الشروط، حيث بدا الشيخ قاسم وكأنّه يرسم خطًا أحمر جديدًا قوامه أنّ السلاح ليس على طاولة النقاش ما لم تُرفَع اليد
الإسرائيلية عن
لبنان ، بمعنى أنّ على إسرائيل تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار أولاً، لكنه مع ذلك ترك المجال مفتوحًا بعد ذلك لكلّ الاحتمالات، ولكن في إطار استراتيجية دفاعية، يصرّ الحزب على ضرورة إنتاجها داخليًا، بمعزل عن أيّ ضغوط خارجية.
الغارات تتكثّف: رسالة بالنار إلى الحزب والدولة؟
إذا كان كثيرون فسّروا كلام الشيخ نعيم قاسم على أنّه "رفض صريح" للمبادرة الأميركية، عشيّة وصول توم برّاك إلى لبنان، فإنّ إسرائيل لم تتأخّر من جهتها في الردّ، على الأرض، وعلى طريقتها المعتادة. فقد سُجّلت في الساعات الأخيرة وتيرة متسارعة من الغارات الإسرائيلية على مناطق عدّة في الجنوب والبقاع، بعضها طال أهدافًا مدنية وأخرى يزعم العدو أنها على صلة بالبنية اللوجستية للمقاومة.
ومع أنّ الغارات الإسرائيلية مع ما تمثّله من خروقات فاضحة لاتفاق وقف إطلاق النار، لم تتوقف عمليًا ولو ليوم واحد منذ توقيع الاتفاق في تشرين الثاني الماضي، إلا أنّها هذه المرّة تحمل في طيّاتها "رسائل ضغط ميداني"، إن صحّ التعبير، على الحزب الذي يرفض حتى الآن قبول "الأمر الواقع الجديد"، وهي موجهة أيضًا إلى الدولة اللبنانية، وسط حديث عن مطالبتها بـ"تزامن" بين تسليم السلاح وانسحاب إسرائيل، وهو ما ترفضه الأخيرة.
لذا، فإنّ الخشية من تصعيد إسرائيلي متسارع في الساعات المقبلة تبقى مشروعة، تزامنًا مع زيارة الموفد الأميركي، وربما بعدها إن لم تحقّق اختراقًا حقيقيًا وجدّيًا، ولا سيما أنّ انطباعًا يسود لدى الكثير من المتابعين أنّ
الولايات المتحدة وإسرائيل لن تكونا راضيتين عن أيّ جواب لبناني لا يتضمن تعهّدًا صريحًا بتسليم السلاح بكامله قبل نهاية العام، ومن دون أيّ شروط مسبقة، أو حتى مطالبة بضمانات.
في النتيجة، يمكن القول إنّ كلمة الشيخ نعيم قاسم بالأمس لم تكن مجرد خطاب عاشورائي. كانت بمثابة بيان سياسي يحدّد شروط الحزب في المرحلة المقبلة، ويرسم سقفًا للتفاوض. في المقابل، تتصرّف إسرائيل وكأنها تسعى إلى "كسر" هذا السقف قبل أن يتحوّل إلى أمر واقع، عبر تصعيد ميداني مدروس يفتح الباب أمام مفاوضات بالنار. وبين هذا وذاك، يبقى لبنان الرسمي واقفًا على حافة انفجار لا يملك وحده مفاتيح تأجيله..