قد لا يكون استهداف مركبة في منطقة خلدة، جنوب
بيروت ، الخرق الأمنيّ "الأخطر" الذي شهدته
الجبهة
اللبنانية منذ التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في نهاية تشرين الثاني الماضي، باعتبار أنّ الخروقات
الإسرائيلية أخذت منحى أكثر دراماتيكيّة في محطّات عدّة، كما حصل مثلاً عشيّة عيد الأضحى المبارك، حين عاش أهالي الضاحية الجنوبية لبيروت ليلة "عصيبة" اضطروا خلالها إلى النزوح مجدّدًا من منازلهم.
ومع ذلك، يشكّل استهداف السيارة في خلدة، بصاروخين موجّهين، تصعيدًا خطيرًا على أكثر من مستوى، بدءًا من الشكل، إذ جاء بلا إنذارات أو مقدمات كما حصل في غارات سابقة، وصولًا إلى الموقع الجغرافي الحساس، على مقربة من مطار بيروت الدولي، وفي قلب الشريان الذي يربط العاصمة بجنوب البلاد، علمًا أنّ التبرير
الإسرائيلي بأن المستهدف كان متورطًا في تهريب الأسلحة، جعل من الغارة رسالة أبعد من مجرد ضربة موضعية.
ورغم أن الغارة جاءت ضمن موجة تصعيد أوسع شملت مناطق عدّة في الجنوب اللبناني، إلا أنها بدت محسوبة بدقة، من حيث التوقيت والمكان، بما حمّلها رسائل أمنية وسياسية ودبلوماسية في آن، خصوصًا أنها تسبق زيارة المبعوث الأميركي توم برّاك إلى بيروت، وسط تصاعد الضغوط الدولية من أجل طرح ملف سلاح
حزب الله على طاولة التفاوض. فكيف تُقرَأ هذه الضربة في السياق الأوسع؟
تغيّر في قواعد الاشتباك؟
لا بدّ لأي قراءة لغارة خلدة أن تبدأ من رمزيتها، التي تتجاوز هوية الشخصية المستهدفة إلى دلالات المكان والتوقيت. فالغارة كسرت النمط الجغرافي الذي حكم المواجهة في الأشهر الأخيرة، حيث انحصرت الاستهدافات داخل مناطق الجنوب، مع خروقات محدودة في عمق الضاحية الجنوبية، في حين تمثّل خلدة نقطة تقاطع حساسة بين الجغرافيا السياسية والعسكرية، وخطًا لا يُفترض أن يكون جزءًا من "ساحات الاشتباك"، رغم أنها لم تكن خارج الحسابات العسكرية تمامًا.
أما زمنيًا، فقد جاءت الغارة في لحظة دقيقة، مع تجدّد الحديث عن الورقة الأميركية التي تقترح نزعًا تدريجيًا لسلاح حزب الله، وبالتزامن مع التحضيرات لزيارة الموفد الأميركي توم برّاك الثانية، التي يُنتظَر أن يتلقّى خلالها من الحكومة اللبنانية إجابات واضحة وحاسمة حول المقترحات التي قدّمها في زيارته الأولى، وهو ما دفع كثيرين إلى تفسير الغارة على أنّها رسالة "ضغط" مباشرة من
تل أبيب إلى بيروت.
وإذا كانت الضربة تندرج في كلّ الأحوال ضمن خانة "حرية الحركة" التي تدّعي
إسرائيل أنها احتفظت لنفسها بها، بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، والتفاهمات الجانبية التي حصلت، فإنّ العارفين يشدّدون على أنّها تعيد طرح إشكاليّة "قواعد الاشتباك" مرّة أخرى، وكأنّ إسرائيل تريد القول إنّ يدها الطويلة قادرة على الوصول إلى أيّ هدف تشرّعه لنفسها، حتى لو كان خارج ساحات المواجهة المفترضة، وبمعزل عن كلّ القواعد التي تبقى بدورها افتراضية.
"حزب الله" يرفض سياسة "الضغوط"
ليس خافيًا على أحد أنّ معظم المتابعين فسّروا غارة خلدة، معطوفة على التصعيد الإسرائيلي الذي بلغ ذروة هذا الأسبوع، بعد تراجع وتيرته مؤخرًا، خصوصًا في أعقاب تفجّر المواجهة المباشرة مع
طهران ، على أنّها "ضغط ناري" على "حزب الله"، عنوانها أنّ لا خيار أمامه سوى تسليم السلاح، بعيدًا عن مماطلة بدأ البعض يلمسها في مواقفه الأخيرة، وآخرها كلام أمينه العام الشيخ نعيم
قاسم الأخير.
في هذا السياق، يبدو واضحًا أنّ "حزب الله" اختار في الساعات الماضية أن يرفع نبرة موقفه الدفاعي، من خلال "حملة مضادة" بشأن ملف السلاح. فالشيخ قاسم قال إنّ "حزب الله" يرفض "أيّ تهديد بالقوّة أو تدخّل خارجيّ في القرارات الداخليّة"، مؤكّدًا أنّه "لن ينقاد إلى الذلّ، ولن يسلّم الأرض أو السلاح للعدوّ الإسرائيليّ"، في حين طالبت كتلة "الوفاء للمقاومة"
الدولة اللبنانية بموقف "قوي وسيادي وواضح" من ورقة المقترحات الأميركية.
صحيح أنّ مواقف الحزب في هذا الإطار، بقيت "مشفّرة" إن جاز التعبير، بما يترك ربما مجالاً للأخذ والردّ، إلا أنّها تترك انطباعًا واضحًا بأنّ الحزب لن يقبل بالتفريط بسلاحه، أو تسليمه بالمجان للعدو، مهما اشتدّت الضغوط، وأنّه حين يتحدّث عن موقف "سيادي"، فهو يعتبر أنّ هناك "أولويات" يجب أن تسبق
النقاش بمصير السلاح، ومنها مثلاً الضغط على إسرائيل لوقف خروقاتها، والانسحاب من النقاط التي تحتلّها، ليُبنى على الشيء مقتضاه بعد ذلك.
في المحصلة، لم تكن ضربة خلدة مجرّد عملية أمنية، كغيرها من الاعتداءات الإسرائيلية شبه اليومية، التي باتت جزءًا من "الروتين" الذي يمرّ حتى بلا إدانة رسميّة، فهي تحمل بين طيّاتها رسالة "ضغط مزدوج"، لـ"حزب الله" الذي لا يريد أن يظهر في موقع المتراجع أو المتجاوب تحت الضغط، وللدولة اللبنانية التي تعكف على إعداد ورقة الرد على المقترحات الأميركية، والتي يبدو أن هامشها يضيق، باعتبار أن ما يُفرض على الطاولة لم يعُد ورقيًا فقط، بل بصيغة صاروخ موجّه في وضح النهار، على طريق مدنيّ، وتحت أنظار الجميع!