عندما حاول الرئيس نجيب ميقاتي تدوير الزوايا في مرحلة بالغة التعقيد من تاريخ لبنان السياسي، في لحظة كانت الزوايا كلها حادة ومسنّنة، وكان أفق الخيارات المتاحة والممكنة ضيقًا جدًّا، أخذ البعض عليه عدم اتخاذه مواقف متصلبة لا تشبهه وخارج قناعاته الوطنية.
فمنذ انتهاء ولاية الرئيس
ميشال عون ودخول البلاد في فراغ رئاسي، وجدت حكومة تصريف الأعمال نفسها في عين العاصفة، وهي لا تملك من الصلاحيات الدستورية المعطاة لها بحكم الدستور ما يكفي من الأدوات التنفيذية الكاملة والمتكاملة لكي تستطيع أن تدير البلاد بما تفرضه الظروف القاهرة، في الوقت الذي كانت القوى السياسية، حتى تلك التي كانت تقاطع الجلسات الحكومية، تطالبها بإدارة ملفات ملتهبة لا تحتمل التأجيل.
لم يتوقف الرئيس
ميقاتي عند الحيز الضيق الذي ترسمه النصوص الدستورية لحكومة تصريف الأعمال، بل حاول بكل الوسائل والإمكانات توسيع هامش المبادرات، التي قام بها سواء في الداخل أو في الخارج، وذلك عبر قراءة مرنة للضرورات الوطنية. بالطبع لم يكن هدفه تجاوز الدستور، بل سعى من خلال علاقته الجيدة بجميع الأطراف السياسية، باستثناء قلة، إلى المحافظة على الحد الأدنى من الاستقرار المؤسساتي في ظل الانقسام السياسي الحاد، مع الحرص على إبقاء الحكومة ضمن الإطار الدستوري وعدم جرّها إلى مواجهة مع القوى السياسية أو الشارع.
ومن خلال ما عُرف بـ "البراغماتية الهادئة"، حاول الرئيس ميقاتي اعتماد أسلوب عماده أسس واضحة مبنية على قناعات شخصية ووطنية، وهي تقوم على مبادئ غير قابلة للمساومة، وهي:
أولًا، الانفتاح على مختلف القوى السياسية من دون استفزاز أي منها، مع تجنب التصعيد الإعلامي أو الانخراط في سجالات حادة.
ثانيًا، العمل خلف الكواليس على حل الأزمات الطارئة، من دون الحاجة إلى الإعلان الصاخب عمّا يقوم به داخل الغرف المغلقة، وأو من خلال ما كان يقوم به من اتصالات داخلية وخارجية.
ثالثًا، كان يعتمد أسلوب التمييز بين الملفات القابلة للحل وتلك القابلة للتأجيل إلى ما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ما سمح بتفادي الاستنزاف السياسي.
رابعًا، حاول استثمار التحالفات الدولية لتأمين الحد الأدنى من الدعم الاقتصادي والمعيشي للبنان، لا سيما في ملفات الكهرباء والاتصالات والمساعدات الدولية.
خامسًا، سعى من خلال صداقاته الدولية، وبالأخصّ
الفرنسية ، إلى وضع حدّ للغطرسة
الإسرائيلية بعدما استباحت تل أبيب كل المواثيق والأعراف الدولية، فاستطاع بالتعاون مع
رئيس مجلس النواب نبيه بري ، المكّلف رسميًا من قِبل "
حزب الله " بأن يكون "الأخ الأكبر" بعد استشهاد
الأمين العام السيد حسن نصرالله، أن يؤّمن الظروف الملائمة لاتفاق لوقف إطلاق النار بالتفاوض مع الراعي الأميركي لهذا الاتفاق، الذي التزم لبنان بكل مندرجاته، فيما لا تزال
إسرائيل تخرقه بصلافة ووقاحة، متحدّية بذلك المجتمع الدولي. وآخر هذه الخروقات استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت في أعنف غارات عليها منذ موافقة اسرائيل على اتفاق لم تحترمه.
سادسًا، سعى الرئيس ميقاتي، ومعه حكومة الممكن، إلى التقليل من الأضرار الناجمة عن عدّة عوامل، ومن بينها وأخطرها الحرب الإسرائيلية المدّمرة وما نتج عنها من خسائر بشرية ومادية تفوق أي تصّور، إضافة إلى رزح البلاد تحت نير الفراغ، مع ما أفرزه من أزمات أضيفت إلى الأزمة الاقتصادية والمالية الشديدة الصعوبة والخطورة، بحيث كانت "تفرّخ" أزمة جديدة مع كل "طلعة" شمس. وما تكاد حكومة تصريف الأعمال تجد حلًّا مقبولًا نسبيًا للمشاكل السابقة حتى تعترض طريقها مشكلة جديدة "أشد مضاضة من الحسام المهند".
سابعًا، لم يترك الرئيس ميقاتي أي مناسبة إلاّ وكان يطالب نواب الأمة بوضع حد لحال الفراغ التي كان يعيشها لبنان وانتخاب رئيس للبلاد، مع ما لهذا الانتخاب من أهمية وطنية.
قد يعتبر البعض أن ما فعله الرئيس ميقاتي لا يرقى إلى مستوى الحلول الناجعة، بل هو مجرد إدارة للأزمة. غير أن واقع الحال يفرض الاعتراف بأن العمل ضمن حدود الممكن، في ظل الفراغ الرئاسي والتعطيل المؤسساتي، هو إنجاز بحد ذاته. فتدوير الزوايا لم يكن هروبًا من المواجهة، بل أسلوب لإبقاء
الدولة على قيد الحياة، ولو بأدنى مقوماتها.
قد لا يتفق الجميع على تقييم تجربة الرئيس ميقاتي، لكن من المؤكد أن الرجل نجح في تجنيب البلاد انهيارات إضافية، عبر إدارة عقلانية وهادئة، تتجنب الصدام وتبحث عن المشترك. وفي بلد تتنازعه الانقسامات والطوائف والمصالح، فإن فن تدوير الزوايا لم يكن خيارًا سهلاً، بل ضرورة وطنية سعى إليها "رجل المهمات الصعبة" في أصعب ظرف من تاريخ لبنان.
أمّا لماذا هذا الحديث الآن؟ فالسبب هو أن غدًا لناظره قريب.