كان لافتًا تصريح نائبة المبعوث الأميركي إلى
الشرق الأوسط
مورغان أورتاغوس ، بأنّ صندوق النقد الدولي ليس الخيار الوحيد أمام
لبنان . لا بل ذهبت المسؤولة الأميركيّة أبعد من ذلك بحديثها عن امتلاكها "خطّة كبيرة ورؤية، قد تمكّن لبنان من الاستغناء عن صندوق النقد" عبر تحويله الى بلد استثمارات، وتجنيبه المزيد من الديون.
ورغم التوضيحات اللاحقة لمضمون الكلام فان مفاعيله لا تزال قائمة وهناك مخاوف من ان يكون قد " وضع في التداول" لرصد ردات الفعل.
أورتاغوس تنسف رؤية المجتمع الدولي للحلّ في لبنان
كلام اورتاغوس عن استبدال البرنامج التمويلي المرتقب مع صندوق النقد الدولي، بشراكة اقتصادية استثمارية بدل الارتهان المالي، أتى مغايرًا لا بل انقلابيًّا قياسًا بكل تصريحات الموفدين الدوليين إلى لبنان، الذين قدّموا وعلى مدى سنوات الأزمة، مقاربتهم للحلّفي لبنان من بوابة صندوق النقد الدولي، مؤكّدين مرارًا وتكرارًا أن لا بديل عن برنامج إصلاحي مع الصندوق. ولطالما رفضت دولهم المانحة إقراض لبنان فلسًا واحدًا ما لم تتفق حكومته على برنامج معه. المسؤولون الأميركيون تصدّروا قائمة من تبنّوا تلك المقاربة، والأرشيف القريب والبعيد يؤكّد ذلك، على سبيل المثال لا الحصر ردّدت السفيرة الأميركية السابقة دوروثي شيا على مسمع المسؤولين اللبنانيين تلك العبارة مرّات عدّة "لا حلّ للبنان دون التفاهم مع صندوق النقد الدولي في أسرع وقت" وكانت أول من نوّه بوصول لبنان لاتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي في نيسان عام 2022.خليفتها ليزا جونسون السفيرة الحالية، وفي بيان تلته أمام لجنة العلاقات الخارجيّة في
مجلس الشيوخ ، في 16 أيار 2023 قالت ما حرفيّته "لقد فشل قادة لبنان في تنفيذ الإصلاحات الاقتصاديّة الحاسمة المطلوبة لبرنامج صندوق النقد الدولي، وهو المسار الواقعي الوحيد للبلاد نحو التعافي". انطلاقًا من هنا، هل تعكس مقترحات أورتاغوس مقاربة جديدة من قبل إدارة
ترامب حيال الأزمة الاقتصاديّة في لبنان، أمّ أنّ ما قالته في الدوحة يعبّر عن رأيها الشخصي في كيفية الخروج من الأزمة؟ والأهم من ذلك، هل يملك لبنان فعلًا بدائل عن صندوق النقد؟
مبدأ التعافي بمعزل عن صندوق النقد ليس جديدًا، ففي لبنان آراء اقتصادية لا تحبّذ ممر صندوق النقد، ولطالما حذّرت من تبعاته، في مقدّمهم رئيس الجمعية الاقتصاديّة اللبنانيّة البروفسور منير راشد، وهو أستاذ محاضر
في الجامعة الأميركية في
بيروت ، وخبير اقتصادي سابق في صندوق النقد الدولي في
واشنطن . وفق مقاربته لن يوافق مجلس المديرين التنفيذيين في صندوق النقد على توقيع اتفاق نهائي مع لبنان، لاقراضه 3 مليارات دولار، ما لم يكن متأكّدًا أنّ الدولة قادرة على تسديد قيمة القرض "من هنا يشترط صندوق النقد خفض الديون، ولأنّ الدين عبارة عن ودائع وسندات يوروبوندز، لا مجال أمام لبنان لتقليص ديونه سوى ودائع المصارف في
مصرف لبنان ". وفي تقريره الذي قدّمه إلى لبنان في حزيران عام 2023، بعنوان "خارطة طريق لإعادة تأهيل النظام المصرفي" اقترح صندوق النقد "إعادة الرسملة الداخليّة عبر تخفيض إجمالي الودائع، من خلال مزيج من عمليات الشطب والتحويل إلى أسهم أو سندات طويلة الأجل في البنوك، وتحويل الودائع إلى ليرة بأسعار قد تختلف عن سعر السوق. وحماية صغار المودعين بالعملات الأجنبيّة حتى مبلغ معين في البنوك القابلة للاستمرار". من هنا يرى راشد في حديث لـ "
لبنان 24 " أنّ الخيارات مع الصندوق محدودة للغاية، وأنّ استراتيجية صندوق النقد تتمحور حول شطب حوالي 90% من الودائع "على مدى أربع سنوات، حاول ممثلو الصندوق إقناع لبنان بمقاربتهم المرتكزة على تصفية الديون عبر شطب الودائع، وهو عمل غير قانوني. أمّا حديثهم عن صغار المودعين فليس مضمونًا، إذ يقترحون ردّ ودائعهم خلال عشر سنوات، وللتخفيف من وطأة ذلك ابتكروا مقترح صندوق استرداد الودائع، وكلّها مقاربات غير قانونيّة، لا تجلب التعافي للبنان، وهي مدمّرة للثقة وللاقتصاد" يقول راشد.
لكن بالمقابل هناك رأي آحر مختلف تمامًا، يتبنّاه عدد غير قليل من الاقتصاديين ومن المسؤولين اللبنانيين، مفاده أنّ صندوق النقد يمثّل معبرًا إلزاميًا للبنان للولوج إلى جهات مانحة أخرى، منها مؤتمر سيدر، وأنّ مبلغ الـ 3 مليار دولار المتواضع ليس هدفًا بل يشكّل مدخلًا للحصول على تمويل من جهات مانحة أخرى. تعليقًا يجيب راشد "لا يجب أن نعتمد في أيّ خطة تعافي على الاستدانة من الدول المانحة، لأنّ الأموال ستذهب في مزاريب الهدر والفساد، وينتهي الأمر بتكبّد الدولة المزيد من الديون. بينما يمكن لنا القيام بإصلاحات تجذب القطاع الخاص من لبنانيين وأجانب للاستثمار، بمعزل عن صندوق النقد".
شكوك حول استدامة التمويل
يضيف راشد أنّه حتّى لو توصلنا إلى برنامج مع صندوق النقد، فاستدامة تمويله لن تكون سهلة "صندوق النقد سيضع شروطًا على كلّ إجراء، وسيشتمل البرنامج على حوالي مئة مؤشّر أداء في كلّ ما يتعلق بالنفقات والموظّفين والضرائب والأجور والخصخصة وتصفية بعض المصارف ووجهات الإنفاق، فضًلا عن إشتراط إصلاحات عديدة في القطاع العام والقضاء وقانون المناقصات وغيرها. وسيضع الصندوق مؤشرات فصليّة، وفي حال لم ينجز لبنان كلّ هذه المؤشرات سيوقف الصندوق الدفع، لأنّ مبلغ 3 مليار مشروط ومقسّط على دفعات وعلى مدى أربع سنوات. وعند إيقاف الدفع سيقابل الأمر بردود فعل سلبية من الدول المانحة، التي ستعتبر أنّ لبنان تخلّف عن الإلتزام بالشروط. وهناك تجارب مماثلة حصلت لا سيما مع اليونان".
طرح أورتاغوس منسّق مع إدارتها؟
يستبعد راشد أنّ تكون اورتاغوس قد طرحت ما طرحته بمعزل عن إدارتها، لافتًا إلى أنّ الجميع يرى عدم حصول أيّ تقدم مع الصندوق، ولا بدّ من طريق آخر خصوصًا أنّ لبنان ليس مفلسًا "تبلغ إلتزامات مصرف لبنان 80 مليار دولار أي الودائع، وهناك 32 مليار يوروبوندز، أي ما يوازي 112 مليار دولار، فكيف سيوافق صندوق النقد على إقراضه؟" سأل راشد، معتبرًا أنّ هناك حلًّا أسهل وأجدى "يملك مصرف لبنان 40 مليار دولار، وهو مبلغ كبير جدًا بالنسبة لحجم الاقتصاد اللبناني، ويمكن استخدام جزء من هذه الأموال في إعادة الودائع والبدء بالإعمار وتحريك عجلة الاقتصاد، بدل انتظار الفتات من الصندوق، يعقب ذلك إعادة جدولة للديون والودائع".
بالمقابل، هناك رأي آخر يعتبر أنّ تحميل مصرف لبنان المسؤولية هو إعفاء للمصارف من دورها كشريك في الأزمة إلى جانب المركزي والدولة. واختلاف المقاربات خصوصأ في صفوف المسؤولين المقرّرين في السلطتين التشريعية والتنفيذية انعكس إطالة في عمر الأزمة، التي أوشكت على إتمام عامها الخامس. فهل تخفي أورتاغوس بطرحها الجديد مفاجأة سارّة من الرئيس الأميركي
دونالد ترامب حيال لبنان، على غرار رفعه المفاجىء للعقوبات عن
سوريا دفعةً واحدة؟ خصوصًا أنّ أزمة لبنان، الذي يملك ثاني أكبر احتياط للذهب عربيًّا، ليست معزولة عن مفهوم
العقوبات . الجواب رهن عدّة تقاطعات محليّة وخارجيّة، بدءًا بمفاعيل ضغوط إدارة ترامب لنزع سلاح
حزب الله ، وصولًا إلى نتائج المفاوضات الأميركية الإيرانيّة.