يتحرّك ملف الموقوفين السوريين في
لبنان ببطء ثقيل، تحكمه تراكمات سياسية وأمنية وقضائية تعود إلى أكثر من عقد، حين عبر آلاف السوريين الحدود إلى لبنان في خضم الحرب التي اشتعلت في بلادهم. بعضهم لجأ، وبعضهم قاتل، وبعضهم وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع نظام
دمشق ، ليتحول عدد كبير منهم لاحقًا إلى موقوفين في السجون
اللبنانية ، إما بتهم جنائية، أو بتهم الانتماء إلى مجموعات مسلحة، أو فقط لمجرد أنهم عبّروا عن موقف سياسي مناهض لحكم
بشار الأسد في ذروة الأزمة.واليوم، ومع تغيّر التموضعات الإقليمية وانفتاح بعض العواصم على دمشق، يعود هذا الملف ليُطرح من جديد، ليس فقط كقضية قانونية وإنسانية، بل كورقة سياسية ترتبط بمستقبل العلاقات اللبنانية ـ
السورية ، وبشكل النظام السوري بعد أكثر من عقد على اندلاع الحرب.
تصنيف الموقوفين: ثلاثة ملفات مختلفة الأبعاد
وفق مصدر قضائي متابع، تواصل معه "
لبنان24 "، يمكن تقسيم الموقوفين السوريين إلى ثلاث فئات رئيسية:
- معارضون سابقون: وهم الموقوفون الذين اعتُقلوا خلال السنوات الماضية بسبب انخراطهم في فصائل معارضة للنظام السوري السابق، أبرزها "
الجيش السوري الحر"، و"
هيئة تحرير الشام "، أو حتى لمجرد
التعبير عن معارضة سياسية لنظام
الأسد . هؤلاء لا يُصنّفون كإرهابيين، ولم تثبت بحقهم أية جرائم داخل لبنان، لكنهم ظلوا موقوفين لأسباب أمنية أو إدارية. هذا الملف يُعتبر الأكثر حساسية، نظرًا لطبيعته السياسية، وعدد هؤلاء يُقدّر بالمئات.
- عناصر جهادية: تشمل هذه الفئة الموقوفين بتهم الانتماء إلى تنظيمات مصنّفة إرهابية مثل "داعش"، وغالبيتهم خضعوا لتوقيفات طويلة وإجراءات تحقيق ومحاكمة، وإن ببطء شديد.
- مجرمون جنائيون: وهم الأفراد الذين ارتكبوا جرائم داخل الأراضي اللبنانية، ويُعاملون وفق القانون
العام اللبناني ، كأي موقوف أجنبي.
إلا أن عدم الفصل الحاسم بين الفئات، والتأخير في البت في ملفات المعارضين تحديدًا، يُبقي العديد منهم في سجون مكتظة دون أحكام واضحة أو محاكمات مكتملة، وهذا ما يزعج حاليا
النظام الجديد الذي أكّد خلال أكثر من مناسبة أن هذا الملف، وخاصة ملف الموقوفين السياسيين يجب أن يبت به
في أسرع وقت ممكن .
الاتفاقيات القضائية بين لبنان وسوريا: ورقة مراجعة لا تزال مفتوحة
على المستوى القانوني، يعتمد لبنان في تعاونه القضائي مع دمشق على اتفاقيات ثنائية وُقّعت في مراحل سابقة، تحديدًا في ظل النظام السابق في
سوريا ، وتتضمن بنودًا واضحة حول تبادل وتسليم الموقوفين والمحكومين، بالإضافة إلى التنسيق القضائي في
القضايا الأمنية.
في هذا السياق، يقول المصدر القضائي لـ"لبنان24" أنّ "هذه الاتفاقيات اليوم تخضع لمراجعة غير معلنة من الجانب اللبناني، ليس بسبب مضمونها القانوني، بل بسبب تبدّل السياق السياسي.. فلبنان لم يتأكد بعد ما إذا كانت السلطة الجديدة في سوريا ـ والتي تسعى إلى إعادة تأهيل نفسها دوليًا ـ ما زالت تلتزم بهذه الاتفاقيات، أو ترغب في تعديلها بما يتلاءم مع أولوياتها الجديدة".
ففي خضم الضبابية التي تكتنف ملف الموقوفين السوريين في لبنان، برزت في الآونة الأخيرة مؤشرات صامتة، لكنها لافتة، صادرة عن أوساط القرار في دمشق، تُوحي بأن الحكم السوري الجديد بات ينظر إلى جزء من هؤلاء المعارضين، المعتقلين منذ سنوات في سجون لبنانية، كملف قابل للطيّ، بل ويُفضَّل أن يُقفل "اليوم قبل
الغد ". لكنّ اللافت في مضمون هذه الإشارات أنها لا تنطلق من منطق أمني أو قضائي بحت، بل تحمل بُعدًا سياسيًا خالصًا، ما يدلّ على أن الملف لم يعد قضية ثنائية تقنية، بل دخل لعبة التفاوض السياسي الأوسع بين
بيروت ودمشق. أما على الضفة اللبنانية، فتُقرأ هذه الإشارات كجزء من مقايضة سياسية صامتة: القبول بتسليم بعض المعارضين للسوريين في مقابل تمرير قانون عفو عام داخلي تطالب به قوى لبنانية تسعى إلى إغلاق ملفات محكومين ومطلوبين محليين.
سجن رومية ... اكتظاظ بلا عدالة
على الأرض، يُشكّل سجن رومية المركزي نموذجًا صارخًا عن التدهور المزمن في البنية التحتية للمؤسسات العقابية في لبنان. فالسجن، الذي صُمّم ليستوعب عددًا محدودًا من النزلاء، بات يضيق بأضعاف قدرته الاستيعابية، حيث يضم اليوم آلاف السجناء، من بينهم مئات الموقوفين السوريين، معظمهم محتجزون منذ
سنوات من دون محاكمات مكتملة، أو حتى توجيه تهم واضحة. هذا الواقع لا يُمثّل فقط أزمة قضائية، بل انفجارًا إنسانيًا مكبوتًا يهدد بانعكاسات خطيرة على السلم الاجتماعي وعلى صورة لبنان أمام المنظمات الحقوقية الدولية.
ظروف الاحتجاز في رومية توصف بأنها تحت الحد الأدنى للمعايير الإنسانية: غرف مكتظة، انعدام الخصوصية، ضعف
الخدمات الصحية ، انتشار الأوبئة، وافتقار كامل للبنية التحتية النفسية والاجتماعية التي تراعي أوضاع المحتجزين، خاصة أولئك الذين لا يُصنّفون كإرهابيين، بل كانوا مجرد معارضين سياسيين فروا من بلدهم في لحظة دموية من تاريخه.
من هنا يرى المصدر القضائي أنّه ورغم الوعود المتكررة من
الجهات الرسمية بتسريع المحاكمات و"تنظيف الملفات"، إلا أن الواقع القضائي لا يعكس هذا التوجّه. الإجراءات بطيئة للغاية، والتأخير يُعزى إلى أسباب "تقنية"، مثل نقص الكوادر القضائية أو بطء العمل الإداري. إلا انّ السبب الجوهري هو غياب قرار سياسي حاسم بشأن كيفية تصنيف هؤلاء الموقوفين، وما إذا كانوا سيُحاكمون في لبنان، أو يُسلَّمون إلى النظام السوري، أو يُخلى سبيل من لم تثبت بحقهم أية تهم جدية.
وتشير المعلومات القضائية المتقاطعة إلى أن أكثر من 630 موقوفًا سوريًا يمكن تسليمهم إلى السلطات السورية "غدًا صباحًا" في حال استُكملت ملفاتهم الإدارية، وتم الاتفاق السياسي ـ القضائي النهائي بين بيروت ودمشق. لكن هذا الاتفاق لا يزال عالقًا بين حسابات المرحلة السابقة ومخاوف المرحلة المقبلة، خصوصًا أن العديد من هؤلاء المعتقلين يُصنّفون كمعارضين للنظام السوري السابق، بينما يعتبرهم الحكم الجديد في دمشق أفرادًا يمكن "استيعابهم"، بل ويطالب باستردادهم ضمن إطار تفاهمات سياسية وأمنية أشمل.
وسط هذا المشهد، يقف لبنان أمام تحدٍ ثلاثي الأبعاد: أزمة سجون متفجرة، مآزق قانونية غير محسومة، وضغوط إنسانية متصاعدة. ما لم تُبادر الدولة إلى حسم هذا الملف بمقاربة شاملة وشفافة، فإن الكلفة لن تكون أمنية أو سياسية فقط، بل أخلاقية أيضًا، حسب المصدر القضائي.