في
الانتخابات البلدية الأخيرة، بدا المشهد السياسي أشبه باستفتاء شعبي على استمرار "
حزب الله " في إدارة الشأن المحلي داخل مناطقه، رغم التحفّظات الواسعة على أداء المجالس السابقة، ورغم التململ الاقتصادي والاجتماعي العميق. نسبة المشاركة لم تكن عالية، إلا أنّ ما تحقّق من نتائج عكس استمرار التماهي بين الجمهور
الشيعي وخيارات الحزب. أما الخروقات القليلة التي ظهرت هنا وهناك، فسرعان ما تبيّن أنها أتت من شخصيات تدور في فلك الحزب أو تنسّق معه مسبقًا، ما يجعل الحديث عن اختراق سياسي داخل بيئته أقرب إلى الوهم.
هذه النتائج ليست تفصيلًا. فهي تعبّر عن واقع مركّب: حزب الله لا يزال، رغم كل شيء، صاحب الشرعية الجماهيرية الأكبر داخل طائفته، ما يُصعّب على خصومه المحليين والإقليميين محاولة تطويقه أو عزله سياسيًا. فالذين راهنوا على أن الحرب ستضعف مكانته داخل المجتمع الشيعي، وجدوا أنفسهم أمام مشهد يُكرّس زعامة مطلقة تقريبًا، ويمنح الحزب تفويضًا ضمنيًا للاستمرار في مشروعه، السياسي والمسلّح، داخل الدولة وخارجها.
لكن، إن كانت الرسالة السياسية قد وصلت وحقّق الحزب بها ما أراد، فإنّ التحدّي الأكبر لا يزال في مكان آخر. فالعين، داخليًا وخارجيًا، لم تعد تكتفي بتفحّص صناديق الاقتراع، بل باتت موجّهة إلى سلاح الحزب، والسلاح الفلسطيني. في هذا السياق، لا يمكن فصل ما يجري في
لبنان عن موجة أوسع في المنطقة. إذ تعمل بعض العواصم العربية على تفكيك بُنى "جبهة الرفض" التاريخية، وتحديدًا الفصائل
الفلسطينية المسلحة التي كانت تنشط تقليديًا في دول الطوق. ففي
سوريا ، تمّت مداهمة مقار وتفكيك قواعد كانت تؤوي عناصر من هذه الفصائل.
في الأردن ، بدأت السلطات حملة صارمة ضد
حماس والإخوان
المسلمين ، شملت مصادرة طائرات مسيّرة وصواريخ ومعدات عسكرية. لبنان ليس بعيدًا عن هذه الموجة، لكن تعقيد الوضع الطائفي وترابط السلاح الفلسطيني مع حزب الله يجعل أيّ مسعى لنزع السلاح أكثر خطورة وتعقيدًا.
من هنا، يبرز واقع مفاده أنّ لبنان لا يستطيع نزع سلاح الفصائل الفلسطينية دون التصدّي لمسألة سلاح حزب الله، والعكس صحيح. وهذا التداخل يُعقّد مهمة الدولة، ويضع الجيش في موقف حرج، إذ يُفضّل
التزام سياسة الاحتواء بدل المواجهة، خشية تفجّر الوضع الداخلي في حال اندلاع صراع مباشر مع أحد المكوّنات الأساسية في البلاد. في المقابل، لا يبدو أن القيادة السياسية تمتلك استراتيجية بديلة أو رؤية شاملة تعيد ضبط التوازن بين السلاح الشرعي وغير الشرعي.
الخشية الكبرى، بحسب بعض المراقبين، ليست من استمرار الوضع الراهن، بل من الفشل في تغييره. فالفشل في معالجة معضلة السلاح قد لا يؤدي فقط إلى سيطرة فعلية لحزب الله على القرار السيادي في لبنان، بل إلى حرب شاملة في أي لحظة مع
إسرائيل ، تكون البلاد فيها عاجزة عن اتخاذ قرار الحرب أو السلم. وبقدر ما يبدو الصراع المباشر مع الحزب وفصائل
المقاومة الفلسطينية مكلِفًا، فإن ثمن ترك السلاح خارج الدولة قد يكون أكثر فداحة، سواء على مستوى السيادة أو على صعيد الأمن الوطني.
في المحصّلة، حزب الله انتصر سياسيًا، لكنه يدرك أن الشرعية الشعبية، مهما تعاظمت، لا تكفي وحدها لحمايته من الاستحقاقات المقبلة. فالتسويات لا تُبنى فقط على صناديق الاقتراع، بل على توازن دقيق بين الشرعية
الديمقراطية والشرعية العسكرية. هذا التوازن مفقود اليوم في لبنان. ومن دون مقاربة جديدة تدمج السلاح ضمن رؤية دفاعية وطنية تُراعي الهواجس الطائفية ولا تتجاهل متطلّبات السيادة، يبقى لبنان معلّقًا بين خيارين أحلاهما مرّ: انفجار داخلي على خلفية السلاح، أو حرب خارجية قد تدمّر ما تبقّى من الدولة.