للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، عاد الطيران العسكري اللبناني إلى التحليق فوق الجنوب، في خطوة وُصفت في الشكل بأنها "روتينية"، لكنها في المضمون تحمل أبعادًا سياسية وأمنية لا يمكن تجاهلها، خصوصاً في ضوء الواقع المستجد على الأرض، بعد "انتهاء الحرب" في الجنوب بين
حزب الله وإسرائيل، وتبدّل شروط التوازن في المنطقة الممتدة جنوب نهر الليطاني.
مصدر عسكري مطّلع قال لـ"
لبنان 24 " إن ما يحصل اليوم هو "طيران روتيني بالكامل"، موضحاً أن "كل ضابط طيّار في الجيش لديه ساعات طيران محدّدة سنويًا يجب تنفيذها، سواء خلال المهمات الفعلية أو خلال التدريبات، في
النهار كما في الليل. وفي حال لم تُنفذ هذه الساعات،
يفقد الطيار أهليته للطيران العسكري".
لكنّ اللافت، كما يشير المصدر، هو أن الجنوب لم يكن مدرجًا سابقًا ضمن خطط سير الطائرات التدريبية، لأسباب تتعلق بـ"الاعتبارات الأمنية الخاصة بالمقاومة"، وهي صيغة لطالما تمّ اعتمادها داخليًا لتبرير الامتناع عن
إدراج هذه المنطقة الحسّاسة ضمن نطاق النشاط الجوي الاعتيادي للجيش .
حادثة سامر حنّا: ذاكرة الطيران الجريحة
يتذكّر العسكريون واللبنانيون جيداً حادثة
النقيب الطيار سامر حنا في آب 2008، حين أُطلقت النيران على طوافته أثناء تحليقها فوق تلال سجد في الجنوب، ما أدّى إلى سقوطها واستشهاده. يومها، قيل الكثير عن ظروف الحادثة، وتمت لفلفته تحت عنوان "سوء تفاهم"، بينما بقي في الذاكرة الجماعية كأحد مؤشرات تقييد حركة الجيش في مناطق الجنوب، حتى بعد انتشار قواته هناك بموجب القرار 1701. ومنذ تلك الحادثة، شكّل تحليق طائرات الجيش في الأجواء الجنوبية خطاً
أحمر غير معلن، بقرار غير مكتوب، لكنّه نافذ. لم يكن التحليق هناك "محظوراً رسمياً"، لكنه
ببساطة لم يحصل.
بحسب المصدر العسكري، فإن الظروف التي كانت تُستخدم كحجّة لتقييد الطيران العسكري فوق الجنوب سقطت عملياً بعد الحرب الأخيرة، لا سيما بعد أن أخلى حزب الله معظم قواعده
العسكرية جنوب الليطاني، وسُجّل تراجع واضح في حجم انتشاره
الظاهر هناك، التزاماً بالقرار الأممي الذي طالما ظلّ حبراً على ورق.
"اليوم لم يعد هناك ما يمنع الجيش من الطيران فوق كامل الأراضي
اللبنانية "، يقول المصدر، مشدداً على أن ما يحصل هو استعادة للحق البديهي بقيادة السماء اللبنانية، لا أكثر.
من زاوية عسكرية بحتة، فإن إعادة إدراج الجنوب ضمن المسارات التدريبية جزء من الخطة السنوية لتأهيل الطيارين، في ظل حرص
القيادة على المحافظة على جهوزية الطواقم الجوية،
بالرغم من الأزمة
المالية الخانقة التي يمر بها الجيش. "لا يملك الجيش ترف التهاون في تأهيل الكوادر"، يقول المصدر، "فكل طيّار يحتاج إلى ساعات محدّدة في الجو سنويًا ليُبقي على رخصته العسكرية فاعلة، وأي تقصير هنا يُفقد الجيش كفاءته الجوّية على المدى
الطويل ".
لكن، وبالرغم من هذا التفسير التقني، تبقى دلالات القرار أوسع. فالسماح للطائرات بالتحليق فوق الجنوب هو إعلان ضمني بأن الجيش بات يتحرّك فوق أراضيه بحرّية أكبر. وهو ما قد يُقرأ إقليميًا كإحدى نتائج الحرب الأخيرة، والضغوط الدولية التي تُمارَس على جميع
الأطراف للالتزام بالخطوط المرسومة جنوباً.