كتب نبيل بو منصف في" النهار": لم تُخفّف التوقعات المسبقة بإخلال إسرائيل باتفاق وقف الأعمال العدائية المبرم بينها وبين لبنان في 27 تشرين الثاني يوم 18 شباط الجاري من الوقع الشديد السلبية لهذه الصدمة الأولى التي تلقاها عهد الرئيس جوزاف عون وحكومة الرئيس نواف سلام. ولعل ما زاد من وقع الصدمة أن الانسحاب الإسرائيلي المجتزأ والمنقوص والذي اقترن بإحياء إسرائيل كابوس إقامة شريط حدودي أو منطقة عازلة عبر خط تحصينات عسكرية على خمس تلال استراتيجية محتلة داخل الأراضي اللبنانية، جاء على وقع التغنّي الواسع بمضمون البيان الوزاري للحكومة الجديدة الذي اعتُبر فاتحة عصر العودة إلى الدولة من خلال إسقاط موروث تشريع "المقاومة" وحصر السياسات السيادية والدفاعية وامتلاك السلاح بالدولة وحدها. تبعاً لهذا التطوّر، ولو أن إسرائيل جلت عملياً عن معظم الجنوب اللبناني، لن يكون متاحاً النوم على الإنجاز المنقوص ما دامت وتيرة التطورات مفتوحة على الاحتمالات التي تبقي باب المفاجآت الحربية مفتوحاً. وأن يهرع لبنان الحكم والحكومة إلى المراجع الدولية، ولا سيما منها "المرجع" الحامل كل مفاتيح الحلّ والربط في إدارة الحلّ الميداني لاتفاق وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل، أي الولايات المتحدة الأميركية، فهو المسلك المنطقي الوحيد الذي يسنده موقف حاسم للعهد والحكومة باعتماد الجهد الديبلوماسي وحده وسيلةً للضغط على إسرائيل وتحميل الإدارة الأميركية تبعة ترك ثغرة خطيرة في اتفاق استولده الوسيط الأميركي وأخلّت به إسرائيل. بات الامر الآن يقاس من زاوية مختلفة عن تلك المقاييس التي كانت سائدة إبان السيطرة المطلقة لـ"حزب الله" على القرارات والسياسات الدولتية للبنان.
يصحّ في هذا السياق أن المفاوض اللبناني الذي وقّع اتفاق 27 تشرين الثاني كان عملياً وواقعياً الثنائي الشيعي وليس حكومة نجيب ميقاتي التي جاء توقيعها شكلياً وصورياً، بمعنى أن إسرائيل تتذرّع بمضامين وتفسيرات موجودة في الاتفاق للمضيّ في اختراقاتها المتوالية والمتواصلة لوقف النار، علماً بأنها تتكئ في عمق الأسباب على حساباتها بأن خسائر "حزب الله" الكارثية لم تعد تبقي له أيّ إمكان للمقاومة العسكرية الحربية مجدداً.
ومع ذلك فإن مجمل التبريرات لبقاء حالة احتلالية إسرائيلية في الجنوب ستبقى بمثابة سيف مسلط على العهد والحكومة اللبنانيين تنذرهما بأن مسار استعادة الدولة كاملة معرّض دوماً للسقطات والمفاجآت. لا يمكن لبنان الرسمي في هذه الحال إلّا أن يمضي بلا هوادة في الضغط المعنوي والسياسي والديبلوماسي على الإدارة الأميركية ودول الخماسية كلها باعتبارها الحليف الأول والأقوى للبنان لكي تنزع كل احتمالات إعادة إدخال إيران من نافذة الاحتلال الإسرائيلي بعدما خرجت من بوابة الكارثة التي لحقت بـ"حزب الله" ولبنان من جراء استدراج نفوذها وسلاحها وأموالها إسرائيل إلى الحرب عليهما.
مضت عقود على "تبادل" الاستباحات والتوظيفات المدمّرة المتبادلة بين إيران وإسرائيل حتى حصل الانفجار الزلزالي التسلسلي الأخير من غزة إلى لبنان وسوريا وسائر الإقليم. ليس من المفترض أبداً أن تغيب عن ذاكرة لبنان "الدولة الجديدة" هذه الوقائع بكل فصولها المدمّرة فيما هو يطارد الدول لتحصيل حقوقه السيادية، وإلا تسلل تاريخ مشؤوم مجدداً إلى لبنان وليست هناك ضمانات قاطعة لعدم تسلله!