بتاريخ اليوم، أي 31 تشرين الأول من العام 2004، يكون لبنان قد طوى سنتين من عمر الفراغ الرئاسي. وإذا لم تحصل أعجوبة فإن البلاد باقية من دون رئيس حتى أقّله انتهاء الحرب. وهذه النهاية كما هو واضح لن تكون قريبة لأسباب كثيرة. ولعل أول هذه الأسباب وأهمها أن إسرائيل التي بدأت هذه الحرب في 17 أيلول الماضي غير مستعدّة لإيقافها قبل تحقيق الأهداف، التي من أجلها تزعم أنها قامت بها، وقبل أن يرضخ لبنان، نيابة عن "حزب الله"، بالشروط التي تمليها تل أبيب، وهي شروط أقّل ما يُقال عنها إنها تعجيزية. ولأنها كذلك، ولأنها تتعارض مع أبسط مفاهيم السيادة الوطنية، لا يمكن أن يقبل بها أي عاقل لا تزال لديه ذرّة من كرامة. وهذا ما سيرفضه من يفاوض باسم لبنان الرسمي.
ولأن لبنان الرسمي لن يقبل بما يُنقل بالتواتر عمّا يسمّى بشروط إسرائيلية تعجيزية مقابل قبول تل أبيب بوقف إطلاق النار، فإن الحرب، التي طوت يومها الرابع والأربعين، ستكون أطول مما كانت عليه في العام 2006. فما يمكن تأكيده، ولو بالتواتر والاستنتاج، هو أن إسرائيل ماضية في مخطّط القتل والتصفية والتدمير والتهجير ضاربة بعرض الحائط ما يصل إلى مسامعها من نداءات دولية بضرورة وقف ما ترتكبه من مجازر في كل من لبنان وغزة، وهي تركب رأسها معتقدة أنها بقصفها المتواصل للجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت ستتمكّن من إخضاع لبنان، وبالتحديد "حزب الله"، على التسليم بهذه الشروط، خصوصًا أنها تعتبر أن ما يتحقّق في الميدان، ولو ظاهريًا، يصبّ في مصلحتها فيما العكس هو الصحيح استنادًا إلى البيانات الصادرة عن "المقاومة الإسلامية".
ولأن الحرب طويلة على ما يبدو، وهذا ما تؤكده المؤشرات الميدانية، فإن لا رئيسًا للجمهورية أقّله في المدى المنظور، وبالتأكيد ليس قبل أن تتبلور صورة المرحلة المقبلة بعد الانتخابات الأميركية، خصوصًا أن ثمة مراهنات كثيرة على أي من المرشحين الديمقراطي والجمهوري لجهة إمكانية التأثير على مسرى التطورات العسكرية في المنطقة. ولكن هذه المراهنات تبقى ضمن دائرة التكهنات بالنسبة إلى السياسة الخارجية، التي سيتبعها كل من دونالد ترامب أو كاملا هاريس. فكلام الليل الأميركي قد يمحوه كلام النهار الإسرائيلي.
فإذا كان اللبنانيون قد اختلفوا على مدى سنتين على "جنس" الرئيس العتيد، ولم تكن الحرب قد اندلعت بعد عندما كانت الفرصة سانحة في الجلسة الانتخابية الـ 12، فكم بالحري اليوم وهم في عزّ حرب تطلق عليها إسرائيل صفة "الوجودية" لم يكن أحد يعلم أنها ستؤدي إلى هذا الكمّ من الخسائر البشرية والمادية. فالشهداء الذين يسقطون كل يوم بالعشرات يُخشى أن يصبحوا مجرد أرقام تتراكم. وكذلك القرى التي أصبحت منازلها متساوية مع الأرض لكثرة ما تتعرّض لقصف يومي همجي ومتوحش. ومع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية اليومية يتزايد عدد النازحين، الذين ينتظرهم شتاء قارس لا يرحم، وكذلك ينتظرهم مصير مجهول. فالعودة هذه المرّة غير مضمونة على رغم ما نسمعه من تصريحات تهدف إلى "رفع المعنويات". ولو افترضنا أن الحرب توقفت اليوم قبل الغد، وهو افتراض نظري، فإلى أين سيعود النازحون وقد أصبحت منازلهم أثرًا بعد عين، وقد أحرقت حقولهم بالقنابل الفوسفورية، التي تجعل الأرض غير صالحة للزراعة لمدى ليس بقصير.
فالرئاسة اللبنانية، التي كانت حتى الأمس القريب أسيرة التجاذبات السياسية الضيقة في زواريب الأحياء التي تصل "ساحة النجمة" بالقصر الجمهوري في بعبدا، قد أصبحت اليوم أسيرة التجاذبات الميدانية المرتبطة بمدى الالتزام بوقف النار. وهذا الالتزام من قِبل إسرائيل غير وارد قبل أن تحقّق، على ما تدّعي، الأهداف التي على أساسها شنّت حربها على لبنان، وقبله على غزة. فعلى المنتظرين أن يأتي الفرج قريبًا أن ينتظروا طويلًا. فالحرب في بدايتها. هكذا يقول "حزب الله". ومن يعش لا يسعه سوى أن يشهد.