بروكسل- في خطوة تُزيد تعقيد المأزق القانوني والدبلوماسي الذي تواجهه إسرائيل منذ اندلاع الحرب على غزة، أعلنت محكمة العدل الدولية انضمام بلجيكا رسميا إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا، والمتعلقة باتهام دولة الاحتلال بخرق اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية.
وجاء هذا الإعلان في لحظة تتقاطع فيها مسارات قضائية دولية متعددة مع ضغط شعبي أوروبي متصاعد، ما يضع حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام واقع دولي أكثر تعقيدا وحرجا من أي وقت مضى.
وأكد وزير الخارجية البلجيكي ماكسيم بريفو، في تصريح له، أن بلاده شاركت في إجراءات القضية تنفيذا لقرار اتخذته الحكومة السابقة في مايو/أيار 2024، موضحا أن هذا التدخل "يندرج ضمن التزام بلجيكا التقليدي بالدفاع عن القانون الدولي".
وشدد بريفو على أن الخطوة لا تتعلّق باتخاذ موقف إلى جانب أي طرف، ولا بالتعليق على وجود إبادة جماعية من عدمه، مؤكدا أن محكمة العدل الدولية وحدها المخوّلة بإصدار القرار النهائي في هذا الشأن.
وأعاد الناطق باسم وزارة الخارجية البلجيكية ديفيد جوردنز التشديد على هذا الموقف في تواصله مع الجزيرة نت، معتبرا أن تصريح الوزير يمثل الموقف الرسمي المعتمد للحكومة البلجيكية.
ويوضح دوبويسون للجزيرة نت، وهو أستاذ القانون الدولي في جامعة بروكسل الحرة، وعضو مركز القانون الدولي فيها، أن القراءة البلجيكية تركّز بشكل خاص على تعريف "القصد الإبادي"، مبيّنا أن "وجود نزاع مسلح أو أهداف عسكرية لا يستبعد قانونيا إمكانية توصيف الأفعال على أنها إبادة جماعية".
ويضيف أن اعتراف محكمة العدل الدولية، في أوامرها السابقة، بوجود "خطر معقول" يتمثل في تعرّض حق السكان الفلسطينيين في عدم الخضوع للإبادة الجماعية لضرر لا يمكن جبره، "يُفعّل التزام الدول بمنع وقوع الإبادة أو استمرارها بحق الفلسطينيين في غزة"، موضحا أن ذلك يعني على وجه الخصوص "وجوب وقف تزويد إسرائيل بالمعدات العسكرية، واتخاذ إجراءات ضمن الإمكانات المتاحة لمساعدة سكان قطاع غزة".
وفي المقابل، يقلّل دوبويسون من فكرة أن كثرة الدول المتدخلة تشكّل وسيلة ضغط مباشرة على إسرائيل، معتبرا أن الأثر الأهم يكمن في "تشجيع قضاة محكمة العدل الدولية على تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية بطريقة قد تقود إلى الاستنتاج بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، لا سيما إذا قدّمت دول متدخلة عديدة تفسيرا قانونيا يسير في هذا الاتجاه".
والدعوى التي تنظر فيها محكمة العدل الدولية هي "دعوى دولة ضد دولة"، رفعتها جنوب أفريقيا في نهاية عام 2023، استنادا إلى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، التي لا تكتفي بحظر ارتكاب الإبادة، بل تُلزم الدول أيضا بمنع وقوعها أينما وُجد خطر معقول بذلك.
ولا تنظر المحكمة في المسؤولية الجنائية للأفراد، بل في مسؤولية الدولة نفسها، وما إذا كانت إسرائيل قد أخلّت بالتزاماتها القانونية.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، أصدرت المحكمة تدابير مؤقتة خلصت فيها إلى وجود "خطر معقول" بأن يتعرض الفلسطينيون في غزة لضرر لا يمكن جبره، وهو توصيف توقفت عنده مطولا الصحافة البلجيكية، ومنها صحيفتا "لو سوير" و"دي مورغان"، واعتبرته نقطة تحوّل نقلت الحرب من مستوى السجال السياسي إلى حيّز التوصيف القانوني الدولي.
ويتقاطع هذا المسار مع تطورات موازية أمام المحكمة الجنائية الدولية، التي تنظر في المسؤولية الجنائية للأفراد عن الجرائم المرتكبة في غزة.
وفي هذا السياق، أشار دبلوماسي عربي يعمل في بلجيكا، فضّل عدم ذكر اسمه، إلى وجود "خلط شائع" بين اختصاصي المحكمتين، موضحا أن محكمة العدل الدولية تُعنى بمسؤولية الدول، بينما تختص الجنائية الدولية بملاحقة الأفراد، مثل بنيامين نتنياهو أو مسؤولين إسرائيليين آخرين.
وأضاف أن اختلاف المسارين لا يعني تناقضهما، بل إن كليهما يراكم ضغطا قانونيا وسياسيا متزايدا على إسرائيل، ويقوّض قدرتها على تقديم الحرب على غزة باعتبارها شأنا أمنيا داخليا خارج نطاق المساءلة الدولية.
ويضيف الدبلوماسي: "معظم التحليلات في بروكسل وأوروبا تشير إلى أن الخطوة البلجيكية لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع الذي تعمل فيه المحاكم الدولية اليوم، في ظل ضغوط سياسية متزايدة، خصوصا من الولايات المتحدة، التي فرضت في فترات سابقة عقوبات على قضاة في المحكمة الجنائية الدولية، واستهدفت مسؤولين أمميين على خلفية تقارير تتعلّق بالحرب على غزة".
وفي هذا الإطار، يقول الدبلوماسي العربي: "تُقرأ مشاركة بلجيكا في مسار محكمة العدل الدولية بوصفها إشارة سياسية قانونية للتمسك باستقلال القضاء الدولي، وعدم تركه معزولا أمام محاولات الردع أو التشكيك".
وتذهب بعض الصحف البلجيكية إلى اعتبار أن انخراط دول أوروبية، وآخرها دعم الخارجية الهولندية في هذه المسارات، يعزّز شرعية قرارات المحاكم الدولية نفسها، ويمنحها سندا سياسيا غير مباشر، في لحظة بات فيها القضاة والمؤسسات الأممية عرضة لضغوط غير مسبوقة.
ولا يأتي التحرك البلجيكي بمعزل عن تصاعد الضغط الشعبي داخل البلاد وفي عموم أوروبا، فقد شهدت بروكسل ومدن بلجيكية أخرى، خلال الأشهر الماضية، مظاهرات واسعة تطالب بوقف الحرب وفرض عقوبات على إسرائيل، كما تصاعدت الانتقادات داخل البرلمانين البلجيكي والأوروبي لما يُنظر إليه على أنه "عجز أو تواطؤ" أوروبي مع الحرب على غزة.
وفي تصريح سابق للجزيرة نت، قال النائب البلجيكي في البرلمان الأوروبي مارك بوتينغا، إن ما يحدث من ضغوط أوروبية "لم يأتِ نتيجة إرادة سياسية حرة، بل ثمرة ضغط شعبي واسع".
واعتبر أن المفوضية الأوروبية "أُجبرت، للمرة الأولى، على اتخاذ خطوات ضد إسرائيل تحت ضغط الشارع"، ومضيفا أن المسؤولية عن الجرائم في غزة "ليست فردية، بل مسؤولية منظومة كاملة من حكومة ونظام احتلال".
وبانضمامها إلى الدعوى، تلتحق بلجيكا بدول سبقتها إلى هذا المسار القانوني، من بينها إسبانيا وأيرلندا وتركيا والبرازيل وكولومبيا والمكسيك وبوليفيا وليبيا، في مؤشر على أن القضية لم تعد معزولة أو هامشية، بل باتت جزءا من مسار دولي متنامٍ يضيّق الخناق القانوني والسياسي على إسرائيل.
ويأتي ذلك في وقت بات فيه وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي أكثر تعقيدا، إذ تحدثت تقارير إعلامية عن طلبه من فرنسا ضمانات خطية أو التزاما رسميا بعدم اعتراض طائرته خلال توجهه إلى الولايات المتحدة، في دلالة على المخاوف المتزايدة من تداعيات المسارات القضائية المفتوحة، وما تفرضه من حسابات جديدة على حركة المسؤولين الإسرائيليين.
وفي المحصلة، ورغم تأكيد بلجيكا أن تدخلها يستند إلى منطق قانوني بحت، فإن توقيته وسياقه يعكسان تحولا أعمق داخل أوروبا، حيث بات الضغط الشعبي والقانوني عاملين متداخلين في صياغة المواقف الرسمية.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة