مظاهرة احتجاجية بمدينة قابس جنوبي #تونس٬ تطالب بإغلاق "المجمع الكيميائي التونسي" الذي يعالج الفوسفات لإنتاج الأسمدة، ويؤكد المحتجون أنه وراء عشرات من حالات التسمم بالغاز والمشاكل الصحية المرتبطة بالتلوث pic.twitter.com/ejPxdhy2oJ
— قناة الجزيرة (@AJArabic) October 21, 2025
تونس- عاشت محافظة قابس جنوب شرقي تونس اليوم الثلاثاء على وقع إضراب عام جهوي شل جميع مرافق الحياة، في حين خرج الآلاف من المواطنين في مسيرة حاشدة للمطالبة بالإغلاق الفوري للمجمع الكيميائي الموجود في المنطقة ورفض ما وصفوه بـ"إصلاحات ترقيعية" من قبل الحكومة.
وانطلقت المسيرة من وسط المدينة واجتازت الشوارع الرئيسية باتجاه الكورنيش البحري وسط هتافات وشعارات تطالب بوقف الإنتاج وتفكيك وحدات المجمع الملوثة، وقد ردد المشاركون هتافات من قبل "الشعب يريد تفكيك الوحدات"، كما طالبوا بإطلاق سراح المحتجين المعتقلين.
ورغم إعلان الحكومة خلال جلسة برلمانية أمس الاثنين عن برنامج لإعادة تأهيل المجمع الكيميائي والحد من انبعاثاته السامة، إلا أن الأهالي عبروا عن خيبة أملهم، معتبرين أن تلك القرارات لا تستجيب لمطلبهم الوحيد وهو وقف الإنتاج نهائيا وغلق المجمع.
وأثارت الجلسة موجة انتقادات بسبب تغيب رئيسة الحكومة سارة الزعفراني ووزراء البيئة والصناعة والمناجم والطاقة عنها، رغم خطورة الوضع البيئي والأمني، في حين اكتفى وزير التجهيز بالإعلان عن 6 مشاريع لإعادة تأهيل المجمع على مراحل.
وجاء الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد الجهوي للشغل بقابس كرد فعل لتراكم الوعود الحكومية، بعد أن تعطلت كل المشاريع السابقة في معالجة التلوث أو المتضررين في ظل تردي الخدمات الصحية، وفق بيان الاتحاد.
في السياق، يقول سامي بن رمضان أحد المحتجين للجزيرة نت إن الدولة لا ترى في قابس سوى خزان للأسمدة الكيميائية المستخرجة من المجمع، مضيفا أن حياة الناس وصحة الأطفال ليست أولوية لدى السلطة.
ويؤكد هذا الشاب -وهو معطل عن العمل- أن "الرئيس قيس سعيد فقد ما تبقى من رصيده الشعبي بعد أن فشل في معالجة أزمات البطالة والتلوث وغلاء المعيشة، واكتفى بخطابات شعبوية بلا إنجازات تذكر".
ويتهم الأهالي السلطة بممارسة سياسة التسويف عبر الحديث عن اتفاقيات مع مقاولات صينية لتأهيل المجمع الكيميائي، في وقت يعتبرون فيه أن الحل الوحيد هو وقف الإنتاج وتفكيك الوحدات الملوثة.
ومنذ تأسيس المجمع سنة 1972، تحولت قابس إلى بؤرة تلوث كبرى، حيث تُسكب ملايين الأطنان من مادة الفوسفوجيبس في البحر سنويا، ما أدى إلى اختناق الثروة السمكية، وتدهور الأراضي الزراعية، وانتشار الأمراض التنفسية، والسرطان.
وأصبحت هذه الكارثة البيئية القديمة اليوم اختبارا سياسيا جديدا لنظام قيس سعيد الذي يرفع شعار "الشعب يريد"، لكنه يواجه اتهامات متزايدة بأنه لا ينصت لنبض الشارع في قابس وبات يعالج الملف البيئي هناك بمقاربة أمنية وحلول ترقيعية.
من جانبه، يقول الناشط البيئي خير الدين دبية، للجزيرة نت، إن حالة الغضب تجتاح أهالي قابس بسبب رفض السلطات الاستجابة لمطالبهم المشروعة في بيئة نظيفة خالية من السموم التي ينفثها المجمع الكيميائي. ويضيف أن غياب رئيسة الحكومة ووزراء البيئة والصناعة عن الجلسة البرلمانية السابقة كان "صفعة" لهم، وكشف عن احتقار السلطة لمطلبهم المشروع في بيئة سليمة وحقهم في الحياة.
من ناحيته، يرى رمضان بن عمر المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة غير حكومية مستقلة) أن الأزمة البيئية في قابس تعكس تراكما لخيارات تنموية خاطئة منذ عقود، قامت على حساب صحة السكان والبيئة، وسط عجز الدولة عن مواكبة التداعيات البيئية والاجتماعية المتفاقمة.
ويؤكد للجزيرة نت أن الخطاب الرسمي الحالي يعاني من تآكل، مبينا أن "النظام السياسي القائم، رغم ادعائه القطيعة مع المنظومة السابقة، لم يقدم بدائل حقيقية أو رؤية جديدة، بل يكرر الأخطاء نفسها في إدارة الملف البيئي والاجتماعي".
ووفق بن عمر، فإن الرئيس سعيد، الذي كان في وقت سابق قريبا من الحراك البيئي في قابس ويعرف مطالبه، وجد نفسه اليوم في اختبار حقيقي "بعدما تنكر لتلك المطالب، ما جعل المواطنين يضعون خطابه موضع مساءلة".
وأضاف أن الاحتجاجات التي تشهدها جهات مثل منطقة المزونة بمحافظة سيدي بوزيد (الوسط الغربي) وأم العرائس بمحافظة قفصة (الجنوب الغربي) وقابس تعبّر عن عودة الزخم الاجتماعي، معتبرا أن سعيد "أصبح في مواجهة مباشرة مع الشعب لا مع خصومه السياسيين، ما قد يدفعه مجددا إلى الحلول الأمنية والقضائية بدل الحوار".
أما رياض الشعيبي القيادي في حركة النهضة فيرى أن الإضراب العام في قابس يعبر عن غضب شعبي عارم تجاه عجز الحكومة عن معالجة أزمة بيئية مزمنة تنخر الجهة منذ سنوات، رغم وعود الإصلاح المتكررة بدون نتائج ملموسة.
وأوضح أن الاحتجاجات السلمية في المحافظة واجهت قمعا أمنيا واعتقالات في صفوف الشباب، إضافة إلى حملات تشويه وتحريض، ما دفع المنظمات الجهوية إلى دعمها ومنحها شرعية نقابية ومدنية أوسع.
وأكد للجزيرة نت أن النظام السياسي بعد 25 يوليو/تموز 2021 (قرارات الرئيس الاستثنائية) أصبح "رئاسويا بامتياز، ما يجعل سعيد يتحمل المسؤولية الكاملة عن تدهور الوضع البيئي والاجتماعي، باعتباره الجهة التي ترسم السياسات العامة للدولة وفق دستوره الجديد".
وحسب الشعيبي، فقَدَ سعيد هامش المناورة ولم يعد قادرا على اتخاذ قرارات جريئة كإغلاق الوحدات الملوثة أو نقلها، بسبب ضعف موارده المالية وتراجع علاقاته الخارجية، ما جعله يبحث عن حلول ظرفية وترضيات شعبوية لا تعالج أصل الأزمة.
ويرى مراقبون أن أزمة قابس تمثل ذروة تآكل المصداقية السياسية للنظام الحالي، إذ عرّت الفجوة بين وعود الرئيس وشعاراته، وبين واقع الناس الذين فقدوا الثقة في الخطاب الرسمي. ويحذرون من أن تجاهل غضب هذه المحافظة قد يكون شرارة لتحركات اجتماعية أوسع في البلاد، خاصة مع تزايد الاحتجاجات في صفوف الشباب العاطل عن العمل والعمال والمعارضة.