في هذه المقابلة، نحاور الكاتب الروائي المغربي محسن الوكيلي حول روايته الجديدة "تقرير إلى أب مؤجل"، الصادرة مؤخرا عن دار مسكلياني.
الروائي الوكيلي الذي عرف بحساسيته تجاه الرواية وتخييل التاريخ کموضوع في السرد، إلا باشتراطات مغايرة فنيا، یفاجئ القارئ هنا مجددا بنص يثير أسئلة النسب والوجود والشرعية الإنسانية، مخترقا حدود الشكل السردي بمقترح فني وجمالي يعيد النظر في معنى الأبوة والغياب والحقيقة.
کما يعبر الوكيلي عن رؤيته للكتابة كفعل وجودي يتجاوز التصورات الجاهزة، ويقدم تأملا عميقا في دور الأدب بوصفه قوة خلاقة تعيد ترتيب العالم.
الحوار يضيء موقع الرواية الجديدة داخل مشروعه السردي، ويعزز علاقتها المتغايرة بالواقع والخيال، ليكشف تصوره عن الإبداع على حد تعبيره: كـ"أداة لولادة الإنسان الجديد".
أنوّهُ في البدء إلى أن كل عمل جديد أقدمه إلى القارئ يكون مختلفا عما سبق. كان هذا دائما تحديا بالنسبة لي.
التكرار أو الاجترار والدوران في فلك واحد أو مغلق لا يمت للإبداع بصلة ولا يروي عطش القارئ الذي يبحث باستمرار عن التجديد، فرواية "أسير البرتغاليين" التي بلغت القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورتها 2022 جاءت مختلفة تماما عن الروايات التي قبلها.
وفي السياق نفسه، لم تكتف رواية "تقرير إلى أب مؤجل" بهذا المبدأ وحسب، بل تذهب أبعد من حيث معالجتها لقضايا جديدة وبشكل مختلف.
إنها رحلة بحث عن أب حاضر غائب، وربما عن الحقيقة إن كان بوسعنا أن نتحدث عن حقيقة ما، فما عساه يكون هذا الأب الذي يلامس عتبات القداسة؟
لن أسهب في الجواب، فمسألة الاختلاف مجال القارئ والناقد، هما وحدهما ما يملكان الحق في تقييم العمل من حيث الأصالة والتجديد والأهمية.
لكل نص رسالة، وإلا ما الداعي لوجوده؟ الرسالة تتعدد وتتسع وتتمدد بتعدد القراءات، فالنص دوما في حاجة إلى قارئ يعيد تركيب عناصره ويستخرج منه أبعادا جديدة، فالحديث هنا لا يقتصر عن نص بديع، بل عن قراءة بديعة، بقدر أهمية النص الذي ينتجه الكاتب تأتي أهمية النص الموازي الذي يبدعه القارئ.
وبالحديث مباشرة عن "تقرير إلى أب مؤجل" يمكن القول إنها من حيث الشكل رسالة مفصلة، تقرير، إلى أن يسكن الذاكرة، أب يجسد "شرعية" الوجود في عالم يشيّء الأبناء مجهولي النسب.
ومن هنا تحديدا تبدأ أولى الرسائل، وربما أولى الأسئلة أيضا، فهل نكون كبشر في حاجة إلى نسب معلوم ليكون وجودنا شرعيا؟ لكن هذا السؤال المعلن يخفي وراءه أسئلة أعظم وأخطر.
أسئلة تسائل تجربتنا كبشر، وتدعونا إلى إعادة تقييم مسارنا وتصحيحه. لا يمكنني أن أضيف أكثر، أترك الأهم للقارئ، ليكتشف بنفسه عوالم هذا النص ويقتفي خط سكة القطار الذي يبيع مرتاديه وهما بالتقدم.
سؤال مهم، شائك، وخطر. الكتّاب عموما، والروائيون خصوصا، "أنبياء العصر الجديد"، أنا أؤمن بهذا، وإذا صمتت أقلامهم فسُدَ العالمُ كله، لذا نحن مطالبون دائما، بقدر استطاعتنا، بأن نصحح ونقرع جرس الخطر ونرسم معالم الطريق نحو الخلاص.
مَنْ غير المبدعين، والروائيين والشعراء والفنانين يستطيع أن يفعل؟ رؤية جديدة للعالم، نعم، لا بد من رؤية جديدة، فعالمنا يغرق في الصراع والحروب وهو، بصيغة ما، تعبيرٌ عن الحياة برمتها حيث يتدافع كل شيء في صراع البقاء.
الوعي، كخاصية بشرية أكثر تطوّرا، قد يكون الأمل في كسر القاعدة، لكننا نبقى بعيدين عن عالم بلا حرب، وعن حياة حقيقية، راقية، تليق بالبشر كنوع.
نعم، أعتقد أنني، وعبر كل عمل أقدّمه، أسير نحو الهدف المرسوم بدقّة، في البحث عن إمكانية أخرى لحياة بقواعد وقوانين جديدة. فالأدب أداة لولادة الإنسان الجديد، أما عن المفاجأة أو الدهشة، فأي نص لا يقدم شيئا منها نص لا يمكنه أن يضمن البقاء ولا أن يحدث الأثر المنشود، لنترك لهذه العمل أن يخوض تجربته. من السابق للأوان أن نتحدث عن الأثر بحسب اعتقادي.
مسكلياني دار نشر كبيرة تتحدث عنها منجزاتها وكتبها التي تلاقي نجاحا وانتشارا استثنائييْن. أنا كاتب مغربي، فخور بانتمائي، تونس بلد عزيز نكن له كمغاربة كل المحبة. التاريخ الذي يجمعنا كبير، الروابط الثقافية، ومنها الأدب، جزء من هذا الارتباط الذي لا يمكنه أن ينفصل.
أنا عربي أيضا، وكل وطن عربي هو وطني. في الأخير محصلة هذه التجربة جيدة للغاية. مسكلياني لا تكتفي بطباعة النصوص ونشرها، بل تذهب أبعد، إنها شريك إستراتيجي في ولادة المشروع الأدبي وفي تحقّقه.
إذا سلمنا أن الحياة كلها وهم، بمعنى ما، وكذبة، فالرواية باعتبارها جزءا من الحياة كذبة أيضا. لكن دعنا نتعمق أكثر ونطرح بضعة أسئلة. ماذا يكون الحب؟ أليس وسيلة لحفظ البقاء قبل كل شيء وبعد كل شيء؟ ألا يكون بهذا خدعة؟ وأفكارنا الكبيرة، والخطيرة، أليست هي الأخرى أوهاما نبيعها لأنفسنا كل مرة لنواصل الحياة؟
الرواية جزء من اللعبة الكبرى كما هي جزء من السردية الكبرى. الرواية خدعة، لكنها تستطيع أن تهدم وتبني وتنسف وتخلق، وهي بذلك لعبة خطرة، تعيد ترتيب الأشياء، بخدع مبدعة لتهبنا حياة أفضل. أجزم، أنها تستطيع تعرية كل شيء وإعادة بناء كل شيء من جديد، لتكون أروع خدعة أنتجها الخيال.
أعتقد أن الرواية ليست معنية بنقل الواقع بحذافيره، الرواية كفن إبداعي تصف الواقع وتفككه وتتجاوزه مبتكرة أساليب تعبيرية مختلفة ومتجددة، قد يلجأ الكاتب أحيانا إلى الواقعية أو نقل حدث معين لغايات محددة، غير أن الخيال يبقى الناظم الأساس.
في رواية "تقرير إلى أب مؤجل" نجد الواقع، في بوتقة الخيال، كلاهما يكمّل الآخر. أومن أن الخيالي والسحري أكثر واقعية في السرد لوصف في مقاربة الواقع وربما أجدى.
فعل الكتابة فعل معقد، أكثر تعقيدا مما قد يعتقد البعض، وهو بهذا أكبر من مجرّد تقنيات تدرس ومهارات تلقن، وسيلاحظ المهتمون بالإبداع عامة والسرد خاصة أنّ معظم الكتّاب لم يكونوا أكاديميين ولم يتلقوا تكوينا خاصا.
يولد الكاتب في مخاضات الحياة وفق كيمياء معقدة لم يعدّها أحد، يولد الكاتب صدفة، حسب رأيي، كما تولد الأحداث العظيمة بغتة، فتفاجأ الجميع، ويأتي نتاجه مركبا يصعب تفكيكه، ومن هذا فالكاتب الحقيقي يكتب ذاته والعالم وفق رؤية خاصة وبشكل جديد دون أن يلتفت إلى شيء آخر.
تبسيط فعل الكتابة وجعله مرتبطا بورشات أو تقنيات يخلق اختلالات كبيرة، ويقفز فوق شرط الموهبة. قد نعلم المرء كيف يغني، المقامات والأوزان، لكننا بذلك لا نمنحه صوتا أصيلا. أنا أكتب نفسي، أفكاري، وأصوغ العالم وفق ما أراه، لأقاسمه مع عوالم غيري، معتقدا أن ما أقدمه من صميم تجربتي. دون هذا، أعتقد، ينتفي فعل الإبداع، يصير إلى تقليد أو محاكاة، اجترار.
هناك دوما عالم مواز. الحياة بمعنى ما كلها عوالم موازية، فكل رؤية للعالم تحمل في طياتها عالما موازيا، فنحن لا نرى الأحداث والأشياء ولا الألوان بالطريقة نفسها، العالم يسكننا، ولكل منا عالم خاص، مختلف، ومتفرد. لكن السؤال الأهم يبقى كيف نعبر عن هذا العالم وفي أي صيغة نخرجه وابتغاء أي أثر.
قبل سنوات، وعشية الإعلان عن الرواية الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية، حيث كانت روايتي "أسير البرتغاليين" إحدى الأعمال المتنافسة، كنت قد وعدت القراء بالأفضل.
أتمنى، من خلال روايتي الجديدة: "تقرير إلى أب مؤجل" أن يكون الوعد قد أنجز. شكرا لكل القراء الذين رافقوني في محطات الكتابة، آملا أن يفي بتطلعاتكم.