في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
حادثة اختراق المسيّرات الروسية المزعومة لأجواء بولندا لم تمر مرور الكرام. وارسو أعلنت أنها استخدمت دفاعاتها الجوية، إلى جانب أنظمة تابعة لحلف شمال الأطلسي، لإسقاط أكثر من 10 طائرات مسيّرة بعد الضربة الروسية على غرب أوكرانيا. ما جعل الموقف يتجاوز مجرد حادثة أمنية إلى أزمة قد تختبر صلابة المادة الرابعة من ميثاق الناتو، وربما تقترب من خطوط المادة الخامسة التي تعني الدفاع المشترك.
رئيس الوزراء البولندي لم يتردد في وصف الوضع بأنه الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، مؤكداً أن بلاده "تحتاج أفعالا لا بيانات تضامن"، وداعياً الحلف إلى تعزيز الدفاعات الجوية فوراً.
في المقابل، ظهرت تحركات عسكرية بولندية عاجلة باتجاه الحدود مع بيلاروسيا، وأُغلقت المعابر الحدودية وسط مخاوف من المناورات العسكرية الروسية–البيلاروسية المرتقبة تحت اسم "زاباد 2025".
موسكو بين النفي والمناورة
رد الكرملين جاء سريعاً عبر المتحدث ديمتري بيسكوف الذي اتهم الغرب بتوجيه اتهامات استفزازية لروسيا دون تقديم أي أدلة.
الخارجية الروسية ذهبت خطوة أبعد، مؤكدة أنها لم تستهدف أي أهداف داخل بولندا وأن عملياتها انحصرت في منشآت دفاعية أوكرانية. بل إن موسكو أعلنت استعدادها للتشاور مع وارسو بشأن الحادثة، في خطوة فُهمت على أنها محاولة لامتصاص الضغوط الدبلوماسية وقطع الطريق على تحرك جماعي داخل الناتو.
هذا التباين بين الرواية البولندية والروسية يعكس جوهر الأزمة: هل ما جرى خرق متعمد من موسكو لاختبار صبر الناتو، أم حادثة عابرة جرى تضخيمها سياسيا؟.
البعد الأوكراني.. المستفيد الصامت
أشار الأكاديمي والباحث السياسي محمود الأفندي خلال حديثه إلى "التاسعة" على سكاي نيوز عربية إلى أن أوكرانيا قد تكون المستفيد الأول من تضخيم هذه الواقعة. ذكّر بحادثة سقوط صاروخ S-300 قبل عامين داخل الأراضي البولندية، والتي اتضح لاحقاً أنه أُطلق من الجانب الأوكراني رغم اتهام كييف حينها لروسيا. برأيه، السيناريو يتكرر الآن، حيث تسعى أوكرانيا لدفع بولندا والناتو نحو مواجهة مباشرة مع موسكو.
الأفندي يرى أن هناك احتمالين رئيسيين: إما أن الدفاعات الأوكرانية الضعيفة لم تعد قادرة على مجاراة وتيرة الهجمات الروسية وتحتاج لمساندة الناتو، أو أن بولندا نفسها بالغت في تصوير الحادثة للضغط على الولايات المتحدة كي تعيد النظر في قرارها بوقف تمويل الجبهة الشرقية للحلف اعتباراً من 2026.
واشنطن.. الغائب الحاضر
في خلفية هذا المشهد، تبقى الولايات المتحدة اللاعب الحاسم. فالناتو من دون الغطاء العسكري والسياسي الأميركي ليس سوى قوة رمزية.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان واضحاً أكثر من مرة بأنه لن يزج بلاده في حرب مباشرة مع روسيا من أجل أوكرانيا. هذا الموقف يضع سقفاً صارماً لأي مغامرة عسكرية، ويجعل تحركات بولندا ودول البلطيق رهينة القرار الأمريكي.
الأفندي شدد على أن واشنطن تدرك تماماً أن أي مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا ستنتهي بحرب نووية، وهو سيناريو تتجنبه بكل السبل. لذلك فإن أوروبا تبدو وكأنها عالقة بين خيارين مرّين: إما استمرار حرب استنزاف طويلة في أوكرانيا قد تحسمها روسيا لصالحها، أو مواجهة مباشرة قد تعني تفكك الناتو نفسه.
أوروبا والهاجس الروسي
قلق العواصم الأوروبية من "انتصار روسي" في أوكرانيا يتجاوز حدود كييف. فنجاح موسكو في فرض تسوية على شروطها سيعني انهياراً تدريجياً لمنظومة الردع الغربية، وربما بداية لتفكك تدريجي في تماسك الحلف.
الأفندي أشار إلى أن الجيش الروسي يضم أكثر من 1.3 مليون مقاتل مدربين على الحرب الحديثة، وهو ما يثير مخاوف أوروبية من أن تستخدم موسكو هذه القوة في المستقبل لـ"تأديب" دول البلطيق وبولندا إذا ما شعرت بأن الناتو بدأ يتآكل.
هذا السيناريو، وإن كان مشروطاً بانهيار الحلف، إلا أنه يوضح حجم المخاوف الأوروبية من أن تتحول أوكرانيا إلى بوابة لإعادة تشكيل ميزان القوى في القارة.
بيلاروسيا على الخط
في خضم هذه الأزمة، دخلت مينسك على خط الرواية، حيث أعلنت أن المسيّرات التي اخترقت الأجواء البولندية كانت "طائشة" وأن دفاعاتها الجوية أسقطت بعضها، بل إنها أبلغت وارسو مسبقاً بتوجهها.
هذا الموقف، وإن بدا محاولة لتهدئة التوتر، إلا أنه يضع بولندا في زاوية حرجة: هل تبالغ في تصوير الحادثة لخدمة أجندتها أم أن موسكو ومينسك تنسقان لإرباك الحلف؟.
المادة الرابعة.. بين التفعيل والتهديد
طلب بولندا تفعيل المادة الرابعة من ميثاق الناتو – التي تتيح لأي عضو طلب مشاورات عاجلة عند شعوره بتهديد – يعكس إدراكاً بولندياً بأن تفعيل المادة الخامسة (الدفاع المشترك) لا يزال بعيد المنال.
فداخل الحلف هناك قناعة بأن الحادثة لا ترقى إلى مستوى "هجوم مباشر" يستدعي الرد العسكري الجماعي. لكن في المقابل، مجرد طرح المادة الرابعة يضع الحلف أمام اختبار سياسي صعب: هل يمكنه إظهار الجدية من دون الانجرار إلى مواجهة مفتوحة مع موسكو؟.
سباق الرسائل والردع
التحركات البولندية على الأرض – من نشر معدات عسكرية قرب الحدود مع بيلاروسيا إلى إغلاق المعابر – ليست مجرد إجراءات أمنية. هي رسائل موجهة لموسكو ولشركاء الناتو في آن واحد: أن وارسو مستعدة للدفاع عن حدودها، لكنها تنتظر أن يُترجم التضامن الغربي إلى أفعال ملموسة.
بالمقابل، الرد الروسي بالنفي والحديث عن "مشاورات" يعكس استراتيجية تهدف لتخفيف حدة الأزمة وتجنب الانجرار إلى تصعيد غير محسوب.
الناتو أمام مفترق طرق
الواقعة الأخيرة تضع حلف الناتو أمام معادلة معقدة: الرد بحزم قد يفتح الباب أمام مواجهة مباشرة مع روسيا، فيما الاكتفاء ببيانات التضامن قد يضعف ثقة الدول الأعضاء في الحلف.
أوروبا، من جانبها، تخشى من أن أي انتصار روسي في أوكرانيا سيقوض موقعها الاستراتيجي، بينما واشنطن تبدو مصممة على تجنب التورط المباشر.
في هذا السياق، يرى الأفندي أن المسألة لا تتعلق فقط بالحادثة بحد ذاتها، بل بمستقبل الحلف ككل.
فالتصدع المحتمل داخل الناتو قد يمنح موسكو فرصة تاريخية لإعادة رسم خرائط النفوذ في أوروبا.
اختبار على أبواب أوروبا
حادثة المسيرات فوق بولندا تكشف حجم التوتر الكامن في علاقة الناتو بروسيا. ما بين الإنكار الروسي، والهلع البولندي، والقلق الأوروبي، والحذر الأمريكي، يجد الحلف نفسه أمام اختبار وجودي. فهل يثبت تماسكه أمام هذه "الاختبارات الطائشة"، أم أن موسكو تراهن على شقوق بدأت تتسع فعلاً داخل البيت الأطلسي؟.