تشهد العلاقات التركية الإسرائيلية توترا أصبح مزمنا خلال 15 عاما الماضية، إذ تتداخل فيه عناصر القوة العسكرية مع الحسابات الجيوسياسية والاقتصادية، لتشكّل خطوط مواجهة غير مباشرة وتتخللها ملفات الأقليات بالمنطقة وحسابات العلاقات مع الدول الغربية.
ورغم امتلاك الدولتين قوة عسكرية صلبة وضخمة، فإن الخبراء الذين تحدث إليهم الجزيرة نت يؤكدون أن أهمية هذه القوة تبرز في ميدان الردع أكثر من استعداد الطرفين لاستخدامها فعليا، فكل دولة تدرك ثمن التصعيد ومخاطر المواجهة المباشرة.
ومع الإعلانات الإسرائيلية المتكررة عن أحلامها في التوسع الإقليمي، وتعدد الجبهات التي تصل إليها القوة العسكرية الإسرائيلية، في إيران وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، يبرز قلق أنقرة من هذه التحركات على مساحة كبيرة من حدودها، بما يمثل تهديدا للأمن القومي التركي.
ولم يكن إعلان تركيا أخيرا قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل وإغلاق كافة الموانئ أمام السلع الإسرائيلية بعيدا عن هذا النسق، بما يمثله من تصعيد حاد جاء ردا على العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة؛ لتعيد أنقرة التأكيد على أن الصدام مع تل أبيب لم يعد مستبعدا، رغم تفضيل الطرفين إبقاء المنافسة ضمن حدود غير مباشرة.
ويناقش هذا التقرير مع عدد من الخبراء أبرز نقاط القوة التي يتمتع بها الطرفان، ومدى المواجهات التي يمكن أن تنشأ بينهما، وأوراق الضغط التي يمتلكها كل طرف، سواء الأقليات أو الملفات الاقتصادية والجيوسياسية، واستثمار العلاقات المباشرة والمتداخلة مع الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة.
قد تنصرف الأنظار مباشرة إلى أهمية ما تمتلكه تركيا وإسرائيل من قوة عسكرية ضخمة، وأنها تمثل حجر الزاوية في الصراع بين الطرفين، لكن الباحث الأول في مركز الجزيرة للدراسات لقاء مكي يرى أنها تعد أقل أهمية مقارنة بعوامل النفوذ الأخرى.
ويبين مكي أن الأهمية العسكرية تكمن في أنها تمثل قوة للردع وتلعب دورا أساسيا في منع أي صدام مباشر. "لا أعتقد أن الطرفين مستعدان لاستخدام القوة العسكرية في مواجهة بينهما حاليا، لكنها تظل ورقة ضغط مرتبطة بإظهار القوة أكثر من الاستعداد للاستخدام الفعلي".
وفي إطار تقييم نقاط القوة هذه، يوضح الباحث غير المقيم في المجلس الأطلسي عمر أوزكيزيلجيك أن تركيا وإسرائيل من الدول القليلة التي تستطيع ممارسة النفوذ خارج حدودهما. لكنه يعود ويعقد مقارنة بين الدولتين بشأن طبيعة تطبيق هذا النفوذ على الأرض.
فتركيا عند أوزكيزيلجيك تملك ميزة الاستمرارية والاندماج في المناطق التي تمارس نفوذا فيها، بسبب تفوقها في القوة الناعمة وما تتمتع به من قبول إقليمي. أما إسرائيل -فرغم تفوقها الجوي والسيبراني- فإنها تفتقر إلى القدرة على تثبيت نفوذ مستدام خارج حدودها.
أما الخبير الأمني والعسكري أسامة خالد فيعقد مقارنة دقيقة لما يتمتع به الطرفان من قدرات عسكرية على النحو التالي:
ومن أجل ذلك، فإن تركيا اتخذت في الأسابيع الأخيرة 3 خطوات عملية استعدادا لمواجهة محتملة مع إسرائيل، شملت تعزيز أنظمة الدفاع الجوي، وتقوية الجبهة الداخلية، وبناء ملاجئ متطورة مضادة للتهديدات النووية. وبالإضافة إلى ذلك، تسلم الجيش التركي منظومة " القبة الفولاذية " محلية الصنع، واتجهت أنقرة نحو اقتناء طائرات "يوروفايتر" الأوروبية لتعزيز القوة الجوية، وهو ما يمثل رسالة مباشرة بأن تركيا تستفيد من نقاط ضعف حالة الردع في المنطقة وتستعد لأي تغيير مفاجئ في موازين القوى.
تمثل قدرة تركيا وإسرائيل على تحريك الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة عنصرا أساسيا في حسابات التنافس بينهما. ولذلك يقول الباحث الأول في مركز الجزيرة للدراسات إن "لإسرائيل قدرة على إزعاج تركيا عبر علاقاتها مع أطراف كالأكراد في شمال سوريا، كما لها تأثير من خلال دعم الأقليات في مناطق أخرى، بينما تحتفظ تركيا بنفوذ واسع في ملفات حيوية كالعلاقات مع أذربيجان وأرمينيا وتحالفاتها مع قوى إقليمية بارزة".
وفيما يتعلق بالنواحي الاقتصادية، فإن مكي يلفت النظر إلى أن قطع العلاقات التجارية يؤثر على الطرفين، خاصة أن تركيا تصدّر مواد زراعية ومنتجات متعددة لإسرائيل، لكنها مع قطع العلاقات وجدت آليات تصدير عبر طرف ثالث، وعلى الطرف الآخر تأثر القطاع السياحي التركي بتوقف السياح الإسرائيليين.
والنتيجة التي تتأتى من ذلك أن الضغط الاقتصادي متبادل بين الطرفين لكنه لا يصل لدرجة الحسم من جهة أخرى.
ويشير مكي كذلك إلى ما كان يمثله التحالف الإسرائيلي المصري اليوناني القبرصي في ملف غاز شرق المتوسط من ورقة ضغط كبيرة ضد تركيا، إلا أن تحسن علاقات أنقرة مع القاهرة ودول الخليج أضعف فعالية هذه الورقة وأغلق بعض المنافذ أمام تل أبيب.
ومن وجهة نظر أوزكيزيلجيك، فإن الحراك الدبلوماسي التركي في المنطقة جعلها قوة مرحبا بها، لكن إسرائيل -وبسبب سياساتها في المنطقة- تواجه عزلة نسبية في دول الجوار، وذلك رغم محاولاتها بناء تحالفات سياسية واقتصادية قد تصل إلى حد التطبيع .
يمكن القول إنه على مدى 15 عاما الأخيرة تحولت العلاقات التركية الإسرائيلية إلى نمط من المواجهات المتقطعة غير المباشرة، تبرز فيه أوراق القوة والتأثير الجيوسياسي أكثر من القدرات العسكرية.
وفي هذا السياق، تتقاطع أوراق الأقليات الكردية والدروز في سوريا مع حسابات النفوذ بين أنقرة وتل أبيب، ويوضح لقاء مكي أن العلاقة الإسرائيلية مع الأكراد ليست واضحة المعالم، فهناك إشارات إلى صلات مع حزب العمال الكردستاني، في حين يعد دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية من تل أبيب أكثر وضوحا، رغم أن "قسد" تتلقى أيضا دعما من جهات متعددة، وبينها واشنطن وطهران؛ لذا تبقى الحسابات معقدة وغير مباشرة.
أما الدروز (جنوبي سوريا)، فرغم بعدهم عن الجغرافيا التركية، فإن دعم إسرائيل لهم يمثل محاولة مستمرة لزعزعة الأمن القومي التركي عبر الورقة السورية، وتظل هذه الورقة حاضرة كلما اشتد التنافس على النفوذ في سوريا، حسب ما قاله الباحث الأول في مركز الجزيرة للدراسات.
ويستدرك عمر أوزكيزيلجيك على الطرح السابق بأن ورقة الأقليات في سوريا "لا تمثل صراع أقليات، فالنزاع التركي الإسرائيلي في سوريا هو تصادم رؤى: تركيا تفضل دولا قوية ومستقرة في الجوار، بينما إسرائيل ترى أمنها في وجود دول ضعيفة أو مفككة، لذلك لا تسعى إسرائيل إلى بناء تحالفات إنسانية مع الدروز أو الأكراد، بل تستخدمهم كورقة في النزاع الجيوسياسي".
ويضيف أسامة خالد إلى وجهتي النظر السابقتين أن "الدعم الإسرائيلي لقسد والدروز في السويداء يثير مخاوف تركيا من استنزاف نفوذها وإحداث تغييرات ديمغرافية وأمنية في ساحتها السورية، لكن الرد التركي يأتي عبر تحصين الجبهة الداخلية وحل مشكلات مزمنة كحزب العمال الكردستاني، مما يجعل ورقة الأقليات ذات أثر مرحلي أكثر من كونها قادرة على قلب المواجهة تماما".
ويتركز الأكراد بأغلبية كثيفة في شمال شرقي سوريا (في محافظتي الحسكة والرقة وجزء من حلب)، في حين يوجد الدروز في محافظة السويداء (جنوبي سوريا)، وكلا المنطقتين تمثلان نقاط تماس نفوذ، فالأكراد على تماس مع تركيا وحدودها الجنوبية، والدروز في الخاصرة الجنوبية لسوريا قرب الجولان المحتل ومناطق النفوذ الإسرائيلي.
الموقف الغربي له تأثير واضح في طبيعة العلاقات بين تركيا وإسرائيل، والأفضل عدم جمع الدول الغربية تحت مظلة واحدة، فأوروبا الحالية قد تتقاطع علاقاتها من الأطراف الخارجية على نحو مغاير لما تذهب إليه المواقف الأميركية، خاصة في ظل الحرب الروسية الأوكرانية وموقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب منها أو من الدعم الأميركي المقدم لحلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي تمثِل تركيا ثاني قوة عسكرية فيه.
لذلك يقول الخبير الأمني والعسكري إن أوروبا تسعى للعب دور براغماتي في المنطقة، إذ تهدف إلى دعم الاستقرار وحماية مصالحها، مضيفا أن "تركيا عضو رئيسي في الناتو وقوة دفاعية كبيرة في أوروبا، لذلك تحرص العواصم الأوروبية على عدم خسارتها لصالح إسرائيل مهما بلغت حدة التصعيد".
بيد أن الموقف الأوروبي قد ينقسم في حال مواجهة مفتوحة بين تركيا وإسرائيل، فتميل بعض الدول الأوروبية إلى إسرائيل فيما تحاول دول أخرى الوساطة والتهدئة، حسب قول المتحدث نفسه.
وفي المقابل، يعد الموقف الأميركي أكثر تعقيدا؛ إذ تدفع واشنطن لضمان مصالحها عند الطرفين، لكنها تظل منحازة لإسرائيل بشكل واضح إذا اضطر الأمر إلى صدام، وذلك بفعل نفوذ إسرائيل في الأروقة الأميركية والشراكة الإستراتيجية بينهما، حسب قول الخبير الأمني والعسكري.
وحسب خالد، فإن الجغرافيا التركية وحجم المجتمع التركي الممتد وحيوية موقع أنقرة تمنح كلها تركيا هامش قوة في التفاوض مع واشنطن، كما أن أميركا تحرص على عدم فقدان أنقرة كحليف مهم في مواجهة روسيا .
وقريب من الطرح السابق، يؤكد الباحث غير المقيم في المجلس الأطلسي أن الغرب عموما لا يرغب في مواجهة مباشرة بين الطرفين، بل تميل أوروبا وأميركا إلى الوساطة وتخفيف التصعيد وخفض منسوب التوتر قدر الإمكان، خاصة أن رؤية تركيا للمنطقة أكثر اتساقا مع الرؤية الغربية من منظور بناء الدول، بينما تفضِل إسرائيل بيئة مفككة تعزز أمنها.
ومنذ حادثة السفينة " مافي مرمرة " عام 2010 التي أسفرت عن مقتل نشطاء أتراك على يد الجيش الإسرائيلي خلال محاولة كسر الحصار البحري عن غزة، تدهورت العلاقات التركية الإسرائيلية بشكل كبير، وتبع ذلك قطيعة دبلوماسية وشد وجذب استمر سنوات.
ورغم محاولات التهدئة، ظلت العلاقات تشهد تذبذبا حادا بين التقارب النسبي والخلافات المتكررة، مع تصاعد التوتر في كل محطة رئيسية إقليمية، لا سيما بعد العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقرار تركيا الأخير قطع العلاقات التجارية وإغلاق الموانئ.
ولا تزال منطقة الشرق الأوسط مرشحة لمزيد من التحولات على وقع المنافسة بين أنقرة وتل أبيب، إذ يدرك الطرفان أن الصدام العسكري هو السيناريو الأسوأ على الإطلاق، لكن المعادلة تظل مفتوحة على مفاجآت إقليمية جديدة كلما احتدمت الصراعات المحلية والدولية.