في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
ها هو نعوم تشومسكي في عرينه الفكري، بين أكوام من الكتب تحيط به في مكتبه الجامعي، و خوسيه موخيكا في مزرعته الأوروغوانية المشمسة، بقميصه الرث، مستغرقا في واقعيته الخالصة.
تدعونا صورة شيخَي اليسار، المفكر الأميركي والرئيس الأوروغواني الراحل، التي يقدمها كتاب "النجاة في القرن الحادي والعشرين"، إلى تأمل متقاطع في مسارين مختلفين متقاربين في آن واحد، أحدهما ينطلق من قاعات المحاضرات وجامعات الولايات المتحدة ، والآخر من مزارع الأوروغواي وزنازينها.
ومع ذلك، يصلان إلى المكان نفسه: الالتزام بالعدالة وبأخلاق الحرية الإنسانية في زمن يضيق فيه الحيز المتاح لهذه القيم.
يصل كل من تشومسكي وموخيكا في هذه الرحلة إلى المكان نفسه: الالتزام بالعدالة وبأخلاق الحرية الإنسانية في زمن يضيق فيه الحيز المتاح لهذه القيم
يضعنا الكتاب -الذي كرسه المخرج الوثائقي المكسيكي ساؤول ألبيذره للمحاورة التي أجراها مع تشومسكي وموخيكا، وصدر عن دار "فيرسو" حديثا- أمام جيل يمثله المحاور (مواليد 1988)، يبحث عن بوصلته أيضا، وعن أمل في أن حوارا بين الأجيال قد يساعد في إنقاذ ما تبقى من خيالنا السياسي في القرن الـ21.
يسألهم في البداية: كيف وصلنا إلى هنا؟ ليتشعب الحوار بعد ذلك بين التاريخ والأتمتة والديمقراطية وحروب أميركا والحب والأمل.
يُفتتح الكتاب -الذي أُنجز في أثناء إعداد ألبيذره فيلما وثائقيا بعنوان "تشومسكي وموخيكا" سيعرض عام 2026- بتقديم لتشومسكي (1928)، مؤسس اللسانيات الحديثة، ويقرأ المزاج السياسي الذي شكل مسيرته، من شاب يتسكع بين مكتبات أناركية في نيويورك ويعارض قيام دولة يهودية من داخل الحركة الصهيونية نفسها، إلى أن أصبح أكثر الأصوات اليسارية حدة في أميركا، إن لم يكن في العالم.
أما موخيكا (1935-2025)، فحياته نفسها ملحمة سياسية: طفل ريفي، وناشط شاب، ومقاتل في حركة "توباماروس"، وسجين معذب، وهارب، ثم رئيس للأوروغواي.
وبدلا من أن تحطمه سنوات العزلة والتعذيب التي كادت أن تصيب عقله بسوء، خرج من المحن أكثر قربا من الناس، وأكثر إيمانا بسياسة تقوم على الكرامة والبساطة والزهد.
يعود تشومسكي إلى عام 1945 الذي يمثل نقطة تحول في تاريخ العالم. ففي غضون أشهر من نهاية الحرب العالمية الثانية ، دخلت البشرية عصرين جديدين في آن: العصر النووي، والعصر الأنثروبوسيني، حيث أصبح النشاط البشري قادرا على تغيير البيئة تغييرا جذريا.
لم يمتلك البشر من قبل القدرة على إنهاء الحياة على الأرض بطريقتين مختلفتين: الإبادة الفورية بقنبلة نووية ، أو التدهور المناخي البطيء.
يلفت تشومسكي إلى أن المجتمعات التي تتعامل بجدية مع تهديد المناخ ليست تلك الغنية التي تسببت فيه، بل تلك المجتمعات الأصلية التي توصف بأنها ليست متحضرة.
لم يمتلك البشر من قبل القدرة على إنهاء الحياة على الأرض بطريقتين مختلفتين: الإبادة الفورية بقنبلة نووية، أو التدهور المناخي البطيء
فاعتراف الإكوادور الدستوري بـ"حقوق الطبيعة"، وقانون "الأرض الأم" في بوليفيا، يقفان في مواجهة صارخة مع الدول الصناعية التي تتسابق نحو الخراب البيئي.
أما موخيكا، فيرى أن العالم يواجه عجزا إراديا عميقا، فالإنسانية تملك القدرة التقنية للنجاة، لكنها لا تملك البنية السياسية القادرة على اتخاذ القرارات الضرورية.
ويتساءل "هل لدى البشرية الوقت الكافي لتصحيح الأخطاء التي ارتكبتها، أم أننا سنستسلم لمحرقة بيئية؟ هذه معضلة خطيرة. فالبشرية تمتلك الوسائل لتدارك أخطائها، لكنها عاجزة عن حشد الإرادة السياسية الكافية لفعل ذلك".
ينبهنا موخيكا إلى خطأ يساري قديم لا يزال مستمرا، وله دور ضالع في أزمات اللحظة التي نعيشها "ارتكب جيلي خطأ ساذجا، اعتقدنا أن التغيير الاجتماعي يعني تحدي أنماط الإنتاج والتوزيع في المجتمع، ولم ندرك الدور الهائل للثقافة. الرأسمالية ثقافة، ويجب علينا الرد على الرأسمالية ومقاومتها بثقافة مختلفة".
يتوقف الحوار عند صعود الأحزاب الفاشية الجديدة في أوروبا، حتى في بلدان كان يفترض أن الذاكرة التاريخية حصنتها كألمانيا والنمسا، وهو صعود لا يمكن فهمه بمعزل عن عقود من السياسات النيوليبرالية، بحسب تشومسكي.
أما موخيكا، فيقارب المسألة من زاوية اجتماعية وأخلاقية أكثر مباشرة: حين يترك الناس فريسة للخوف والفقر وانعدام المعنى، يصبح الخطاب اليميني جذابا.
ويشرح تشومسكي كيف جرى تقديم نقل السلطة من الدولة إلى السوق بوصفه توسيعا للحرية الفردية، بينما كان في الواقع نقلا للقرار من المجال العام إلى شركات عملاقة لا تخضع للمساءلة.
ويضيف موخيكا إلى هذا النقد بعدا إنسانيا: فالديمقراطية ليست مؤسسات، بل شعور بالكرامة والانتماء، وحين تتحول السياسة إلى إدارة تقنية تخدم النخب، يفقد الناس ثقتهم بالنظام برمته.
وفي هذا السياق، يطلق تشومسكي توصيفه الشهير للحزب الجمهوري بوصفه "أخطر منظمة في تاريخ البشرية"؛ وهو تصريح صادم، لكنه في رأيه صادق بسبب إنكار الحزب المنهجي لأزمة المناخ.
ولا يختلف معه موخيكا في الجوهر، لكنه يعيد صياغة الخطر بلغة أبسط: عالم يرفض مواجهة التغير المناخي هو عالم يقرر التضحية بالأجيال القادمة من أجل أرباح آنية.
قبل عقد واحد فقط، كانت أميركا اللاتينية تقدم بوصفها أفقا بديلا للعالم وقوة اقتصادية صاعدة، ثم سرعان ما عادت لتجد نفسها في قلب عواصف التضخم والانتكاسات الاقتصادية المروعة.
يبدأ تشومسكي من الخلفية الطويلة: إرث العقود النيوليبرالية التي ضربت القارة في الثمانينيات والتسعينيات، قبل أن تنجح دولها في كسر قبضة صندوق النقد الدولي والبحث عن استقلال اقتصادي وسياسي.
تجربة البحث عن بديل للنيوليبرالية جاءت محملة بأخطائها الخاصة: تفشي الفساد، وضعف الإرادة السياسية، والاعتماد المستمر على تصدير المواد الخام بدلا من بناء قاعدة صناعية وطنية، وهو ما جعل معظم حكومات "الموجة الوردية" تعيد إنتاج البنية التي أرادت تجاوزها
بيد أن هذه الإنجازات جاءت محملة بأخطائها الخاصة: تفشي الفساد، وضعف الإرادة السياسية، والاعتماد المستمر على تصدير المواد الخام بدلا من بناء قاعدة صناعية وطنية، وهو ما جعل معظم حكومات "الموجة الوردية" تعيد إنتاج البنية التي أرادت تجاوزها.
في المقابل، يقدم موخيكا تشخيصا لا يقل قتامة، فحقوق العمال في تراجع، واليمين يصعد. ومع ذلك، فإن المقاومة موجودة في الشباب، وفي الحركات الاجتماعية، وفي نموذج مثل حركة "العمال المعدمين" في البرازيل، التي يعتبرها من أهم القوى التقدمية في القارة.
تقف القارة اليوم على حافة التراجع، لكنها لم تفقد القدرة على النهوض، ولا تزال تمتلك ما يكفي من قوى المقاومة والموارد البشرية والثقافية لتعيد تعريف مستقبلها.. إنها قارة لا تستسلم بسهولة، لكنها لا تتعلم بسهولة أيضا.
يتحدث تشومسكي، وهو يقترب من عقده العاشر، عن الحياة الهانئة لا نظريا بل بالشعر، مستشهدا بعمر الخيام: "جرة خمر، ورغيف خبز، وأنت إلى جانبي تغنين في الفلاة".
ويعد هذا اختيارا لافتا لمفكر ارتبط اسمه طويلا بالصرامة والتحليل النقدي.
الحب عند تشومسكي "خالد"، يمتد من الملاحم الهوميرية إلى زواجه من فاليريا في أواخر العمر عام 2013.. يقول "تستطيع أن تجد الحب في السابعة والثمانين".
يرى موخيكا أن "لا سعادة بلا حرية"، ويضيف: "الحرية تسلب بسهولة في الطريقة التي ندير بها وقتنا". إن حياة تقوم على الدَّين والتراكم والعمل الذي لا ينتهي، ليست مرهقة فحسب، بل بلا حرية
أما موخيكا، فينزل الحب إلى الأرض، إلى العادة والدوام. يقول: "للحب أعمار، حين نكون صغارا يكون بركانيا، وفي عمري يصبح عادات حلوة".
يرى موخيكا ببساطة أن "لا سعادة بلا حرية"، ويضيف: "الحرية تسلب بسهولة في الطريقة التي ندير بها وقتنا". إن حياة تقوم على الدَّين والتراكم والعمل الذي لا ينتهي، ليست مرهقة فحسب، بل بلا حرية.
يوافقه تشومسكي، مشيرا إلى أن العمل الإبداعي الذي يخضع لسيطرة الفرد، سواء كان بحثا علميا أو إصلاح سيارة، قد يكون "من أكثر جوانب الحياة إشباعا"، وأن حرمان الناس من هذه الاستقلالية هو من أعمق مظالم العصر الحديث.
وحين يُسأل موخيكا عن اليأس وتزايد معدلات الاكتئاب والانتحار بين الشباب، يرد بأن الانتحار ليس جبنا بل فقدان للأفق ولليوتوبيا. فالحياة، حتى في أقسى صورها، تظل "مغامرة".
ويستعيد ذكرى إطعامه الفئران فتات الخبز في أثناء سجنه، لا بدافع عاطفي، بل كدليل على أن صلة صغيرة، مهما بدت تافهة، يمكن أن تمنع اليأس من الإطباق.
"يجب أن تكون الحياة في المركز"، يقول موخيكا معترضا على التفكير الاقتصادي الذي يعامل السعادة بوصفها أمرا ثانويا.
أما تشومسكي فيتخيل مستقبلا من السكينة المنزلية: العيش مع زوجته، وكلب، وبعض الدجاج، ومواصلة الكتابة.
رغم أن هذه الرؤية غير بطولية، وتلك بالضبط قوتها في قرن مثقل بالكوارث، فإن الكتاب لا يقدم برنامجا سياسيا جاهزا ولا وصفة خلاص، بل دعوة إلى إعادة التفكير في الأساسيات التي أهملها عالم مسرع.
فالسياسة هنا ليست تقنية حكم، بل سؤال أخلاقي يومي عن معنى العيش مع الآخرين.
المصدر:
الجزيرة