في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
شكّلت أزمة دارفور منذ اندلاعها عام 2003 واحدة من أعقد النزاعات في أفريقيا، حيث تشابكت فيها العوامل القبلية والسياسية والاقتصادية والإقليمية. وبين جولات تفاوض فاشلة في أبوجا وسرت، جاءت الوساطة القطرية منذ عام 2008 لتؤسس لمسار مختلف، قوامه الحياد الإيجابي، والواقعية السياسية، والقدرة على الجمع بين أطراف متباعدة في المواقف والرؤى..
في هذا السياق، قدّم الدكتور محمد حسن إمام في دراسته التحليلية الموسومة «الوساطة القطرية لسلام دارفور» قراءة معمقة لتجربة الدوحة، باعتبارها نموذجا للدبلوماسية العربية الفاعلة، المتوازنة بين البعد الإنساني والسياسي، والساعية لتحقيق تسوية مستدامة لا مجرد اتفاق سياسي عابر.
انطلقت الوساطة القطرية رسميا في عام 2008 بتفويض من جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي، واستندت إلى رؤية ترى أن حل أزمة دارفور لا يمكن أن يكون عسكريا، بل عبر تسوية سياسية شاملة تعالج جذور التهميش التنموي والاجتماعي. واعتمدت الدوحة 3 مرتكزات رئيسية كما يوضح الدكتور إمام.
الحياد الإيجابي: أي الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، بما في ذلك الحكومة السودانية والحركات المسلحة.
الشمولية: عبر إشراك المجتمع المدني والنازحين والمرأة في مراحل التفاوض.
الربط بين الأمن والتنمية: وهو ما تَمثّل في إنشاء صندوق إعمار دارفور ومشروعات تنموية موازية للاتفاق السياسي.
مرت الوساطة القطرية بـ3 مراحل أساسية، لكل منها طبيعتها وأدواتها.
2008-2010 م مرحلة بناء الثقة.
ركزت على وقف العدائيات وتثبيت الحوار عبر لقاءات تمهيدية بين الحكومة السودانية وبعض حركات دارفور المسلحة، مع دعم من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي.
وهنا أظهرت قطر مرونة لافتة في إدارة القنوات الخلفية، واستثمرت علاقاتها الإقليمية لتقريب وجهات النظر، خصوصا مع تشظي الحركات المسلحة.
مرحلة الاتفاق السياسي (2011)
تُوجت الجهود بتوقيع وثيقة الدوحة لسلام دارفور في يوليو 2011، بحضور الرئيس السوداني السابق عمر البشير وقادة الحركات المسلحة.
وتضمنت الوثيقة محاور للسلطة وتقاسم الثروة والتعويضات والعدالة الانتقالية، وأُنشِئت بموجبها مؤسسات تنفيذية مثل سلطة دارفور الإقليمية وصندوق إعادة الإعمار.
ويرى الدكتور إمام أن هذه المرحلة مثّلت نجاحا إستراتيجيا للدبلوماسية القطرية التي جمعت بين الرعاية المالية والسياسية، وأعادت السودان إلى واجهة الحوار الدولي بعد سنوات من العزلة.
مرحلة ما بعد الاتفاق (2012-2020)
واجه تنفيذ الوثيقة تحديات كبيرة، أبرزها انقسام الحركات المسلحة، وضعف التمويل، وغياب الإرادة السياسية المحلية، إضافة إلى المتغيرات الإقليمية التي ألقت بظلالها على المشهد.
ورغم ذلك، واصلت الدوحة دعمها عبر مؤتمرات المانحين في الدوحة وبرلين، وإطلاق مبادرات الإنعاش الاقتصادي، وهو ما جعل التجربة، وفق رؤية الدكتور إمام، أطول وساطة عربية متصلة زمنيا في أفريقيا.
يُبرز الدكتور محمد حسن إمام أن الوساطة القطرية لم تكن مجرد جهد إنساني أو دبلوماسي، بل تحركا إستراتيجيا متعدد الأبعاد.
فهي أعادت تعريف مفهوم "الوساطة العربية" بعيدا عن الاستقطاب الإقليمي
وأثبتت أن القوة الناعمة القطرية القائمة على الحوار والاستثمار في التنمية يمكن أن تُحدث فارقا في الملفات الصعبة.
كما ساهمت في تحييد دارفور عن الأجندات الدولية المتصارعة آنذاك بين واشنطن وبكين وموسكو، من خلال طرح حلول سودانية أفريقية بغطاء عربي.
ورغم نجاح الوساطة في إنجاز اتفاق الدوحة، فإن تطبيقاته الميدانية واجهت عراقيل عديدة خاصة تعدد الفصائل المسلحة التي لم توقع على الاتفاق، مما جعل بعض البنود منقوصة التنفيذ. وكذلك التحولات السياسية في الخرطوم بعد سقوط النظام السابق عام 2019، والتي أضعفت المرجعيات القانونية للاتفاق. إلى جانب انهيار الثقة بين المركز والإقليم بسبب استمرار النزاعات المحلية وضعف الخدمات.
ويشير الدكتور إمام إلى أن غياب المتابعة الدولية وضعف التنسيق بين آليات المانحين والسلطة الانتقالية أدى إلى تراجع الزخم السياسي للوثيقة، رغم بقاء قيمتها كمرجع أساسي لأي مفاوضات مستقبلية.
مع اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، عادت قضية دارفور إلى الواجهة من جديد، بعد أن أصبحت إحدى الساحات الأكثر دموية في النزاع الحالي.
في هذا السياق، يُعيد الدكتور محمد حسن إمام قراءة التجربة القطرية بوصفها رافعة ممكنة لإعادة بناء الثقة والسلام الأهلي.
فدور قطر لم يتوقف عند مرحلة الوثيقة، بل يمتد اليوم إلى دعم مبادرات إنعاش الاقتصاد السوداني وتمويل مشروعات المصالحة المجتمعية، بالتنسيق مع الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة.
كما يمكن أن تمثل الدوحة -وفق رؤية إمام- نقطة التقاء بين القوى الإقليمية والدولية في ظل تراجع أدوار بعض الفاعلين التقليديين، الذين فقدوا مصداقيتهم أمام الشعب السوداني.
في دراسته، يربط الدكتور إمام بين مفهوم "الوساطة السياسية" و"الإنعاش الاقتصادي"، معتبرا أن تحقيق السلام المستدام يتطلب معالجة الفقر والتهميش والبطالة عبر حزم استثمارية موجهة للمناطق المتأثرة بالنزاعات.
وفي هذا الإطار، تبرز جهود الدوحة في دعم صندوق إعمار دارفور ومبادراتها الأخيرة لتفعيل آليات التنمية الريفية، مما يجعلها فاعلا محوريا في أي عملية إنعاش وطني سوداني قادمة.
كما أن خبرتها في التفاوض الإنساني والوساطات المتعددة (من لبنان إلى السودان وأفغانستان وتشاد إلى الكونغو) تؤهلها للعب دور الضامن الإقليمي إذا تشكلت تسوية سودانية جديدة.
تخلص دراسة الدكتور محمد حسن إمام إلى عدد من الدروس الجوهرية التي يمكن أن تُبنى عليها المرحلة القادمة:
لقد خلصت دراسة الدكتور إمام إلى الوساطة القطرية لسلام دارفور أثبتت أنها ليست تجربة عابرة، بل هي نموذج عربي متكامل في إدارة النزاعات، يجمع بين الإنسانية والعقلانية السياسية.
وفي ضوء ما يعيشه السودان اليوم من تفكك مؤسسي وصراع مسلح، تعود تلك التجربة لتشكل إطارا مرجعيا لإحياء الأمل في سلام شامل.
ويختتم الدكتور محمد حسن إمام تحليله بدعوة صريحة إلى تحريك الدبلوماسية التنموية القطرية مجددا، من أجل إنعاش دارفور والسودان عبر برامج تنموية مستدامة، تؤسس لسلام واقعي طويل الأمد يحفظ وحدة السودان واستقراره.