آخر الأخبار

"أنخاب الأصائل".. إطلالة على المبنى وإيماءة إلى المعنى

شارك

من المعلوم بالضرورة أنه لا يمكن قراءة النص الأدبي إلا من خلال النصوص التي تتحاور معه وتتقاطع مشكّلة سياقه النصي، فكل نص أدبي إنما يتخلق في تكوينه الفني تجاوبا مع تلك النصوص التي تشترك معه في الخصائص الفنية للنوع الأدبي، والتي منها يتشكل عبر العصور النموذج المثال الذي من خلاله يمكن فهم النصوص المنتمية إلى ذلك النوع الأدبي وتقييمها جودة وإبداعا وتقليدا واتباعا. وهذا المعنى هو ما أشار إليه أبو تمام في قولته الشهيرة:

"لم لا تفهمان ما يقال؟"

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 اليوميات الروائية والإطاحة بالواقع عند عادل المعيزي
* list 2 of 2 رولا غانم: الكتابة عن فلسطين ليست استدعاء للذاكرة بل هي وجود إنساني برمته end of list

جوابا على السؤال الإنكاري الذي واجهه به أبو سعيد الضّرير وأبو العميثل "لم لَا تَقول مَا يفهم؟" حينما أنشد قصيدته في مدح عبد الله بن طاهر:

أَهُنَّ عَوادي يوسُفٍ وَصَواحِبُه

فَعَزماً فَقُدْماً أَدرَكَ السُؤلَ طالِبُه

إِذا المَرءُ لَم يَستَخلِصِ الحَزمُ نَفسَهُ

فَذِروَتُهُ لِلحادِثاتِ وَغارِبُه

أَعاذِلَتي ما أَخشَنَ اللَيلَ مَركَبًا

وَأَخشَنُ مِنهُ في المُلِمّاتِ راكِبُه

فأبو تمام في جوابه على هذا السؤال الإنكاري بسؤال إنكاري، إنما يريد أن يقول "إن من قرأ الشعر العربي وعلمه لا بد أن يفهم ما أقول. ذلك أن الشعر العربي مفعم حد الضجيج بالعذل والعواذل واللوم واللوائم واللاحي والمَلْحِيّ، كما يقول عبيد بن الأبرص:

هبَّت تلوم، وليست ساعة اللاحي *** هلَاّ انتظرت بهذا اللَّوم إصباحي؟

قاتلها الله، تلحاني، وقد علمت *** أنَّي لنفسي إفسادي وإصلاحي!

وقول عروة بن الورد:

أقِلِّي عَلَي اللومَ يَا ابنَةَ مُنذرِ *** ونَامِي فإِنْ لمْ تشتَهِي النومَ فاسهَرِي

وقد كثر ذلك وتردد حتى أصبح التلميح إليه أبلغ من التصريح به شعريا.

ويتسع فهم القارئ للشعر كلما توسع في قراءته، وهذا ما عبر عنه جلال الدين الرومي بقوله

"على قدر رؤية العين يكون بحرها"

من هذا المنطلق ستكون قراءتنا في ديوان "أنخاب الأصائل"، نقول "في ديوان" ولا نقول "لديوان" لأن أي قراءة مستوعبة لا يمكن أن تتم في مثل هذه العجالة في هذا الأصيل القصير، ولأن النص الشعري خصب عميق الأبعاد، فكلما عاودته انفتح لك أفق جديد في قراءته لم تلمحه -ربما- من قبل، فهو نص متجدد في ذاته متعدد في قراءاته.

وديوان أنخاب الأصائل الذي نشرته دائرة الثقافة بالشارقة سنة 2021 في 113 صفحة يشتمل على 85 نصا شعريا، يأتي ضمن سياقه الشعري الخاص في بناء يكمل السابق فيه اللاحق، فقد تقدمه ومهد له في مسار البناء الشعري لمحمد ولد إمام ديواناه: "الفجر والمساء" القاهرة 2005، و"أشعار" المغرب 2018.

إعلان

وكان الأمثل، لو أن الوقت المتاح في هذا الأصيل القصير ينفسح لذلك، أن نلم -ولو بنظرة عجلى- بهذا الصرح الشعري الذي بدأ الشاعر يشيده منذ ما يقارب العقدين، فالاطلاع على السوابق من نصوص المبدع يضيء فهم المتلقي ويسدده في قراءة اللواحق منها. والرؤية الشاملة للعمل أبلغ في إدراك كنه مبناه ومعناه من النظرة الجزئية؟

بعد تحديد النص الأدبي من خلال النوع الأدبي الذي ينتمي إليه، وبعد الإشارة إلى مكانته ضمن العمل الكلي للمبدع، فإن أول عتبة لدخول النص الأدبي هو عنوانه، وقد اختار شاعرنا لهذه المجموعة عنوانا موغلا في إيحاءاته ووشائجه مع النصوص الشعرية التي اتخذت الخمر موضوعا لها توصيفا وترميزا، إذ أصبحت الخمر مع تطور تخليق الثقافة العربية لإيحاءاتها ورموزها من أخصب الرموز، فلم يعد للخمر ذلك المعنى الحسي وما يرتبط به من قيم شاعت في الجاهلية، مثل الكرم والأريحية والشجاعة، بل أصبحت رمزا لسكر الحب في أبلغ تجلياته الروحية كما في قول ابن الفارض:

شَرِبْنَا على ذكْرِ الحبيبِ مُدامَةً *** سكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ

لها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يُدِيرُهَا *** هلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نَجم

ومع أنني لا أرتاح للأنخاب مهما زهت قواريرها، وصفت أباريقها، وراقت محاسن من يديرها، اللهم إلا ما ارتقي منها من دنيا الحس إلى تلك الجهة الأخرى من فراديس الروح، فإنني -في هذا الأصيل الدافئ من شهر سبتمبر/أيلول، وهو شهر يشتهر في ثقافة الشاي الموريتانية بأنه شهر "لست فيه"، أي أن مدمني الشاي يعافون شربه في هذا الشهر بسبب حره- أجدني مرتاحا لهذه الأنخاب التي يقدمها هذا الديوان على مائدة شاي الأربعاء في ضيافة اتحاد الكتاب.

فإذا انتقلنا إلى المعمار الفني لهذا الديوان، إلى أنخابه النصية، فإننا نلاحظ أن نصوص الديوان التي تبلغ حوالي 85 نصا كَتَبَتْها حوادث احتضنتها فضاءات زمانية وجغرافية متنوعة ومتباعدة.

نعم قلت "كَتَبَتْها" لأنني أعتقد أن الذاتية الفنية هي مرآة تشكلت من تفاعل الأحاسيس والمشاعر الفردية مع الرؤية الشعرية التي هي نتاج التمرس بالتقليد الشعري قراءة وكتابة. فالحوادث التي تمر بحياة الشعراء ترسم وتكتب في تلك المرآة من آثارها ما يتلاءم مع خصائصها الفنية التي تحركها الأحاسيس والمشاعر الفردية وتوجهها الرؤية الشعرية. وقوة التفاعل وعمقه بين هذين المكونين وتوازنهما الدقيق هو الذي يقدح نار الإبداع الشعري الحقيقي.

يتجلى في "أنخاب الأصائل" توظيف مبتكر للقوافي والأوزان المتعددة، جامعا بين الشكل العمودي وقصيدة التفعيلة لتقديم تجربة شعرية أصيلة وعميقة.

فإذا ما خلت آلية الكتابة الشعرية من هذه الخاصية الإبداعية بحيث تطغى الأحاسيس والمشاعر الفردية عليها، فإن نتاجها لن يعدو أن يكون نصا مباشرا لا رونق فيه للإبداع. أما إذا ما طغى عليها التقليد الشعري فإن نتاجها لن يكون إلا تكرارا وتوليدا من ذاكرة متن ذلك التقليد، بطريقة أشبه ما تكون بما نراه اليوم من شعر "الذكاء الاصطناعي". والكلام على هذا الموضوع يحتاج إلى بسط قد يخرج بأصيلنا هذا عما اجتمعنا له من مداورة "أنخاب الأصائل" التي يمتعنا بها هذا الديوان.

إن هذه الأنخاب المتجسدة في نصوص هذ الديوان تتراءى في مراياها كثير من الحوادث الذاتية والتاريخية المتباعدة والمتنوعة على المديين الجغرافي والتاريخي. والشعر الذي لا تراءى فيه الحوادث التي تمر بذات الشاعر هو شعر في ذاتيته الفنية نوع من العمى.

إعلان

وهذا التنوع والتباعد على مستوى المضمون يناظره تنوع في قوالب الشكل الفني، فمع أن البناء العمودي التقليدي هو الغالب على نصوص الديوان، فإن قصيدة التفعيلة غير غائبة، فهناك بضعة نصوص منها تراوح في أوزانها ما بين البحور الصافية: الرمل والرجز والوافر والكامل والمتقارب والمتدارك. والشاعر في هذه القصائد لا يتخلى كليا عن إيقاع القافية، وإنما يستثمر إمكاناته ويوظفها توظيفا إبداعيا بارعا، كما في القصائد: "أسئلتها وإجاباتي"، و"مع سائحة" و"الحلم" و"ليليَ الحزين".. إلخ.

فالأولى والثانية تسيران على إيقاع قافية موحدة، وتتنوع القوافي في الثالثة، وتراوح الرابعة ما بين قافيتين.

أما القصائد العمودية فإنها تراوح في أوزانها بين معظم البحور التقليدية والبحور الأكثر استعمالا، وهي على التوالي: الخفيف ثم البسيط، فالكامل وربما استعمله مجزوءا فالطويل، فالرمل، وكثيرا ما يستعمله مجزوءا، فالوافر، فالسريع، فالمنسرح، فالمتقارب فالمجتث. وهذا التنوع في الأوزان والقوافي يأتي غالبا في تجاوب وانسجام مع الموضوع الشعري الذي ينتقل ويدور ما بين الحب والبوح الشخصي المعبر عن الأحاسيس الذاتية للشاعر تجاه واقعه الشخصي والقومي والعالمي.

وتتراءى في قصائد هذا الديوان ظلال جميع الأحداث التي مرت بها الأمة في تاريخها المعاصر من أحداث فلسطين التي لم تسترح منذ أكثر من 70 عاما إلى لبنان إلى العراق إلى الشام، وكل ما يعاني منه الإنسان العربي، كما في القصائد "عربي" و"بغداد" و"تاريخنا" و"الطفل الذي أغرقنا" و"عذرا يا مضايا"..إلخ، والتعبير عن هذه القضايا يأتي بلغة سهلة رقيقة وبأسلوب يدور ما بين الإبانة والإشارة والتلميح والصور الرمزية.

وتبدو الخصائص الفنية في نصوص هذا الديوان، كما لو كانت أمشاجا من جميع اتجاهات الشعر العربي الحديث بالإضافة إلى ما يُلمح أحيانا من خصوصية الشعر الموريتاني.

ولا شك أن قارئ هذا الديوان سيتجاوز هذه الإلمامة السريعة وما انبرى عنها من ملامح في مشهد هذا الصرح الشعري المتميز عندما يجوس بذهنه خلال نصوصه متأملا مناظرها الممتعة ومتعمقا في سراديبها المعتمة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار