خذل نهر دجلة الشابة مروة، وهي من أبناء طائفة الصابئة المندائية، مرتين. مرة بارتفاع مناسيبه إلى الحد الذي غمر فيه مكان إتمام الطقوس الدينية للصابئة المندائية في منطقة القادسية جنوب غربي العاصمة بغداد، وأخرى لاختبائه خلف عاصفة ترابية غطت ملامحه بالكامل فتعذر عليها إتمام مراسيم تعميدها لإكساب زواجها الشرعية الدينية.
تقول مروة في حديثها لـ DW "نحن نقوم بعقد القران قانونيا ثم نحدد موعد حفلة الزفاف، وتكون قبل يوم من المراسيم الدينية التي تسمى بلغتنا الأرامية (الصباغة)، وبما أن المراسم تكون كل يوم أحد بالتالي تكون حفلة الزفاف يوم السبت، وبيوم الصباغة نلبس (الراستا)، وهي الملابس الدينية الخاصة بنا. عبارة عن ملابس قطنية بيضاء بسيطة جدا لا تحتوي اية نقوشاو رسم ".
ورداً على سؤالها، كيف شعرت عندما تأجلت طقوس الصباغة؟ أجابت: "التأجيل مخيب للأمل، ويعرقل الكثير من الخطط المستقبلية لما بعد الزواج، وأهمها أن نكون زوجين بالكامل لأن زواجنا لا يكتمل إلا بأداء الطقوس الدينية ".
التغيرات المناخية في العراق لم تؤثر على مراسيم الزواج فقط، بل على أغلب الطقوس الدينية لأبناء الطائفة ومجمل نشاطات حياتهم، لأن الماء الجاري بالنسبة لهم هو الحياة. جفاف بعض روافد نهري دجلة والفرات وتلوثهما أدت إلى هجرة العديد من أبناء الطائفة داخليا ضمن محافظات ومدن العراق، وخارجيا إلى دول يتواجد فيها أبناء الطائفة أو تلك التي تمكنوا من الهجرة إليها، وفي مقدمتها أستراليا والسويد .
الشيخ ستار جبار الحلو رئيس ديانة الصابئة المندائيين في العراق والعالم، ورتبته الدينية ريش أمة (ريشما) بلغة الصابئة، ومعناها رئيس أمة صورة من: Amal Saqr/DWطمر نهر الخر
يتحدث الشيخ ستار جبار الحلو رئيس ديانة الصابئة المندائيين في العراق والعالم، ورتبته الدينية ريش أمة (ريشما) بلغة الصابئة، ومعناها رئيس أمة لـ DW ، وهو يتأمل نهر الخر المتفرع من نهر دجلة ، والذي كان يمر من البوابة الخلفية لمبنى مندي الطائفة في منطقة الجادرية وسط العاصمة بغداد، وقد جف اليوم بعد أن كانت مياهه تعلو درجات سلم المبنى وتغمر باحاته، قلة مناسيب المياه ادت إلى طمره في عام 2002. على الرغم من أن تاريخ وجوده يعود إلى بداية العهد العباسي في العراق أي منذ عام 750م .
يقول الحلو "كنا نمارس طقوسنا الدينية في مندي طائفة الصابئة المندائية بتوفر المياه الجارية لنهر الخر قبل أن يجف بسبب انحسار مياه دجلة، وبتالي اضطررنا إلى إيجاد مكان بديل لممارسة طقوسنا وهو أيضا على نهر دجلة وقريب من بناية مندي الطائفة، ولكن ذلك لم يحل دون صعوبة ممارسة الطقوس بسبب المتغيرات المناخية، وتقلبات الجو المستمرة بين فيضان مكان العبادة، بحيث يتعذر النزول إلى ماء دجلة أو انحساره إلى درجة قلة الجريان إضافة إلى نسبة التلوث الكبيرة ".
الطقوس التي تحدث عنها الحلو تتمثل بالصباغة، وهي طقس التعميد للولادات والزيجات، وكذلك الرشامة، وهي الاغتسال بماء نقي جاري عند أداء الصلوات والتطهر من الجنابه .
يبين الشيخ ستار جبار الحلو "بعض الطقوس الدينية لا يمكن تأديتها إلا في الأجواء الحارة حيث نغطس في المياه لمدة تتراوح من 10 إلى 12 ساعة خلال اليوم، وبالتالي نحتاج إلى طقس جيد وصافي، وإذا ما تغيرت الأجواء وأصبحت باردة أو تشوبها عاصفة ترابية، بحيث تنعدم الرؤية، طبعا سيؤدي ذلك إلى عرقلة إقامة أو إتمام الطقوس، ومن هذه الطقوس المسقفة ، وهي تجري للأحياء والأموات وتكون معقدة جداً " .
ويضيف "الزواج لدينا لا يمكن أن يكتمل دون إجراء طقوس الصباغة للعروسين والتي من خلالها يؤدون قسم الزواج المبارك، وهذا لا يتم إلا بوجود ماء جاري نظيف وطقس جيد ".
الماء عنصر أساسي في طقوس الطائفة المندائية، حيث يستعمل في طقس التعميد للولادات والزيجات، وكذلك الرشامة، وهي الاغتسال بماء نقي جاري عند أداء الصلوات والتطهر من الجنابه.صورة من: picture-alliance/AP Photo/H. Mizbanتوقف طقس التعميد
الناشط من أبناء طائفة الصابئة المندائية أحمد الكلمشي الذي يعيش في محافظة البصرة جنوب العراق يقول لـ DW إن الماء يعتبر من أهم عناصر الطبيعة التي تحدد مواطن وأماكن تواجد المندائيين كونه يتداخل بشكل مباشر مع أغلب طقوسهم الدينية وله دلالة على الطهارة الروحية والجسدية بدون الماء الجاري لا يستطيع المندائيين إقامة طقس التعميد، الذي يعتبر أحد أركان الديانة المندائية، ولا يمكن إجراء مراسيم عقد الزواج الشرعي حسب العقيدة المندائية .
ويضيف "أن ارتفاع نسبة الملوحة والتلوث في مياه شط العرب بمحافظة البصرة أثر بصورة مباشرة على صحة وحياة المندائيين، إذ لا يمكن لنا إقامة طقوسنا الدينية إلا في مياه جارية، ما أدى الى تأجيل إقامة طقس التعميد في أيام الأحاد، وفقا لآخر حديث لي مع رئيس مجلس شؤون الصابة المندائية في المحافظة، والذي كان بعد تواصلكم معي ".
ويشير الكلمشي إلى التغيير المناخي وكيف بات يمثل كابوسا حقيقيا لأبناء طائفة الصابئة المندائية، لأن له تداعيات خطيرة، حيث تدمرت بعض قرى ومناطق الأ هوار نتيجة لجفافها، وبالتالي فقدان الكثير من الثروات الحيوانية والنباتية، فالصابئة يعملون في الزراعة وتربية الجاموس وصيد السمك، واختفاء تلك الثروات أجبر الالاف من أبناء الطائفة على الهجرة إلى مدن أخرى بحثا عن العمل والمأوى بالقرب من مياه جارية ليمارسوا حياتهم وطقوسهم، وفقا لتعاليم دينهم .
بعض بيوت المندي في المحافظات اضطرت مؤخرا الى إنشاء أحواض داخلية من أجل إتمام بعض المراسيم الدينية للحد من تأجيلها، ويتم ذلك بمد هذه الاحواض بمياه جارية من دجلة والفرات عبر خراطيم .
90 بالمائة منهم هاجروا بسبب الجفاف
رئيس مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والناشط في مجال الحوار بين الأديان والحريات المدنية وحرية المعتقد الكاتب والأكاديمي الدكتور سعد سلوم، حذر خلال حديثة مع الـ DW من "انقراض طائفة الصابئية المندائية اذا أستمر الحال على ما هو عليه اليوم ".
تحذير سلوم جاء بعد رصده لوضع أبناء الطائفة من خلال أحد مؤلفاته (ديناميات الهوية) وتحديدا في الفصل الثامن الذي حمل عنوان (المندائيون: اندثار ثقافة ألفية)، حيث أشار إلى تناقص أعداد أبناء الطائفة بصورة كبيرة وصلت الى ما نسبته 90% للفترة بين عامي 2003و 2019، وكان واحد من أهم أسباب الهجرة هي المتغيرات المناخية ومعدلات الجفاف ونسب التلوث المرتفعة .
ورداً على سؤال حول أعداد أبناء طائفة الصابئة المندائية وتوزيعهم الجغرافي حاليا قال سلوم "العدد الكلي لهم حاليا لا يتجاوز ثلاثة آلاف فقط، إن لم يكن أقل من ذلك بكثير، بينما كان عددهم قبل 2003 يتجاوز الستين ألف، حاليا العدد الأكبر منهم يتواجد في البصرة وميسان وبغداد، ولكن إذا أردنا الحديث عن إحصائيات دقيقة فهي في إقليم كردستان حيث تشير الإحصائيات إلى التواجد المندائي ضمن محافظاته، ففي أربيل يتواجد 400 مندائي، وما يقرب من 40 مندائي في السليمانية و4 مندائين فقط في محافظة دهوك " .
ويضيف سلوم أعمل على مؤلف جديد يحمل عنوان (جفاف مياه يوحنا المعمدان) وهو يشير بشكل واضح إلى فقدان العراق لطائفة الصابئة المندائية، وهذا على حد تعبيره "يعد خسارة كبيرة" إذا لم يتم العمل على كافة المستويات للحفاظ على وجودهم كثروة حضارية وثقافية تشكل جزء من تكوين العراق، والعمل يجب أن لا يكون على مستوى الحكومة العراقية، بل إن المجتمع الدولي تقع على عاتقة مسؤولية الحفاظ على هذا الوجود لأن انقراضهم من العراق هو خسارة حقيقية للحضارة الإنسانية خاصة وأن العالم يعتبر الثقافة المندائية جزء من الثقافة الأرامية وكان هذا على مدى ألفي عام .
تنص طقوس المجتمع المندائي وخاصة رجال الدين، على أن يغسلوا طعامهم وأواني الطبخ والملابس في الماء الجاري ويشربون منه أيضًاصورة من: picture-alliance/AP Photo/H. Mizbanعلى المندائيين إطلاق الضوء الأحمر
سبق لوزارة البيئة العراقية أن أعلنت، من خلال تقاريرها، عن وصول نسبة التلوث في نهر دجلة تحديدًا إلى 90%، وهي نسبة مرتفعة، وتزيد قليلًا عن نسب التلوث في نهر الفرات وشط العرب .
يقول المستشار الفني لوزير البيئة، الدكتور نظير عبود فزع، في حديثه لـ DW إن البيئة لا تعرف الحدود ولا الطوائف، فالمشاكل البيئية عامة، وتأثيراتها ستمتد إلى الجميع. لكنه أشار إلى أن "الطائفة المندائية ستعاني بشكل أكبر، فإذا كانت تستخدم الأهوار، فهي في حالة جفاف مستمر. أما شط العرب ، فمستوى الملوحة فيه في تزايد، وبالنسبة لبغداد، فالتحدي يكمن في شح المياه، وارتفاع معدلات التلوث، خصوصًا في نهر دجلة ."
وعند الحديث عن أسباب شح المياه، أوضح الدكتور نظير "أن العراق يعاني من شح مائي نتيجة المتغيرات المناخية التي أدت إلى ارتفاع درجات الحرارة، ومن المتوقع أن تزداد بمعدل يتراوح بين 3 إلى 5 درجات بحلول عام 2050. السبب الآخر يكمن في سياسة إدارة ملف المياه من دول المنبع، وهي تركيا وإيران وسوريا، والتي أثرت بشكل مباشر على الحصص المائية الواردة إلى العراق ."
ودعا نظير أبناء طائفة الصابئة المندائية إلى إطلاق الضوء الأحمر لمواجهة التحديات المقبلة، والتعاون مع الحكومة العراقية، لتنفيذ الخطط الموضوعة، والتي بدأت عملية تنفيذها في شهر آذار/ مارس من عام 2024، وتتضمن هذه الخطط شقين: الأول يتعلق بالمعالجة عبر عدة وسائل لمواجهة خطر الشح والتلوث، والثاني يركز على التكيّف من خلال تغيير النهج الاجتماعي وتوعية المواطنين بضرورة تعديل سلوكهم تجاه استهلاك المياه، سواء في الاستخدام الشخصي أو في الزراعة والصناعة .
وختم الدكتور نظير حديثه بمقترح يتضمّن المطالبة بحصة مائية خاصة لأبناء الطائفة الصابئية المندائية، من أجل تمكينهم من ممارسة حياتهم وطقوسهم، وضمان بقائهم، باعتبارهم جزءًا مهمًا من نسيج المجتمع العراقي .
تناقص أعداد أبناء الطائفة المندائية بصورة كبيرة. وكان واحد من أهم اسباب الهجرة هي المتغيرات المناخية ومعدلات الجفاف مثل نهر دجلة الذي يشهد جفافا كبيراصورة من: Amal Saqr/DWاختفاء نهري دجلة والفرات
العديد من منظمات المجتمع المدني المهتمة بالبيئة وتأثير التغيرات المناخية حذرت كثيرا من خلال بياناتها وتقاريرها من انخفاض مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات التي تؤدي إلى قلة جريان مائهما، وبالتالي ارتفاع معدلات التلوث لترسب مياه الصرف الصحي والمخلفات الثقيلة للمستشفيات والمعامل الملقاة فيهما بنسب كبيرة .
رئيس منظمة حقب للإغاثة والتنمية المستدامة حيدر رشاد الربيعي تحدث لـ DW حول الدراسات التي تشير إلى احتمالية اختفاء نهري دجلة والفرات في غضون 15 عشر عاما أو أقل بسبب التغيرات المناخية وسوء إدارة الملف المائي من قبل الحكومة العراقية سواء من ناحية المعالجات الداخلية أو بالتفاوض مع دول المنبع على الحصص المائية المخصصة للعراق، ويصف ذلك بالقول "هذا الأمر غير جائز لا دولياً ولا أخلاقياً ولا إنسانياً ".
وردا على سؤال حول معدلات التلوث وشح المياه أجاب الربيعي "أن واحدا من أهم أسباب شح المياه هو ارتفاع درجات الحرارة التي تصل إلى نصف درجة الغليان. حيث يفقد العراق بسبب ذلك 8 مليار متر مكعب من المياه بعملية التبخر، أما التلوث فواحد من أسبابه الرئيسية هي مياه الصرف الصحي غير المعالج التي تصب في نهر دجلة، والتي تصل إلى مليون متر مكعب يوميا وهذا في بغداد فقط، و6 مليون متر مكعب على مستوى بقية محافظات العراق وهذه كارثة ".
في ظل كل المتغيرات السابقة الذكر يبقى مصير أبناء طائفة الصابئة المندائية مجهولا، وبقائهم في العراق مرهونا بمدى أخذ مشاكلهم على محمل الجد حكومياً وسياسياً ودولياً، حسب ما يؤكد خبراء.
تحرير: هشام الدريوش