نجح فريق من الباحثين بقيادة علماء من جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا في الصين في تطوير تقنية جديدة يمكنها الاستفادة من ضوء الشمس لتحفيز تفاعلات كيميائية عضوية شديدة الصعوبة، من دون الحاجة إلى حرارة مرتفعة أو معادن نادرة. هذا الابتكار يرتكز على نوع جديد مما يُعرف باسم "النقاط الكمومية".
ويقول أحمد قاسم، الباحث في قسم الكيمياء بجامعة فرجينيا كومنولث الأميركية، وغير المشارك في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "تخيل عالما يُمكن فيه لأشعة الشمس وحدها تشغيل تفاعلات كيميائية معقدة، وتحويل الجزيئات الصعبة إلى أدوية منقذة للحياة أو مواد مستدامة بأقل قدر من الطاقة والنفايات. قد تتحقق هذه الرؤية بفضل هذا الاكتشاف الرائد في تكنولوجيا النانو".
وبحسب الدراسة المنشورة في دورية "نيتشر كوميونيكيشنز"، فإن التقنية ترتكز على آلية نانوية تسمح بإطلاق إلكترونات عالية الطاقة، تُعرف بـ"الإلكترونات الساخنة"، وعند تعرض النقاط الكمومية لضوء مرئي، هذه الإلكترونات الساخنة قادرة على تكسير روابط كيميائية كانت تُعتبر خاملة أو تتطلب ظروفا قاسية لتفكيكها.
المحفز هو مادة تُسرّع التفاعل الكيميائي من دون أن تُستهلك أو تتغير في النهاية. تخيّل أن لديك نارا وتريد استخدامها في إشعال الفحم بسرعة. إذا وضعت ورقا أو سائلا مثل الكحول، فسيساعد الفحم على الاشتعال أسرع، لكن الورق نفسه لا يتحول إلى فحم. الورق هنا مثل المحفز، يسرّع العملية لكنه لا يتحول إلى المنتج النهائي، أي لا يتحول إلى فحم مشتعل.
وفي الصناعة، تعمل المحفزات كجندي مجهول، إذ تقوم عليها أكبر الصناعات. تفكك المحفزات جزيئات النفط الكبيرة إلى وقود مثل البنزين والديزل. كما لا يمكن أن يتفاعل النيتروجين مع الهيدروجين لصنع الأمونيا صناعيا إلا عبر محفز معدني. حتى في حياتنا اليومية، تحتوي المنظفات على محفزات تحلل الدهون أو البروتينات في الملابس. كما يعمل محفز السيارة على تحويل الغازات السامة في العادم إلى غازات أقل ضررا، وغيرها من الأمثلة.
وتقدم التقنية الجديدة حلا بديلا للتفاعلات التي كانت تعتمد في السابق على معادن قلوية أو درجات حرارة عالية بحسب قاسم، والذي يضيف "تتطلب العديد من التفاعلات الكيميائية الحيوية في الصناعات الدوائية وعلوم المواد ظروفا قاسية. لكن هذا النهج الجديد يستخدم ما يسمى "الإلكترونات الساخنة"، وهي إلكترونات عالية الطاقة تُولّدها النقاط الكمومية تحت ضوء منخفض الكثافة، لتنشيط الجزيئات بسلاسة وكفاءة ومن ثَم تتفاعل تحت ظروف كيميائية معتدلة".
ويُعيد هذا الابتكار تعريف مفهوم التحفيز الضوئي، إذ يثبت أن بالإمكان تسخير أشعة الشمس، حرفيا، للقيام بتفاعلات كانت تتطلب معدات ضخمة أو مواد خطرة أو طاقة هائلة. وبفضل تقنية النقاط الكمومية المُطعّمة بعناية بأيونات المنجنيز، أصبحت الكيمياء أكثر قربا من الضوء، وأقرب إلى البيئة.
النقاط الكمومية هي جزيئات نانوية صغيرة جدا، أصغر ألف مرة من عرض شعرة الإنسان، ومصنوعة من مواد شبه موصلة، وتتميز بقدرتها على امتصاص وإطلاق الضوء بطريقة مميزة حسب حجمها.
تخيّل أنك تمتلك مجموعة من الكرات الزجاجية الصغيرة مختلفة الأحجام، وكل واحدة منها تضيء بلون مختلف عندما تسلط عليها الضوء. كلما صغر حجم الكرات، تغير لون الضوء الخارج منها، وهذا يشبه ما يحدث مع النقاط الكمومية، والتي تكمن أهميتها في قدرتها على التحكم في اللون، والطاقة، وطريقة تفاعلها مع الضوء أو الكهرباء.
النقاط الكمومية موجودة في حياتنا بالفعل، في أجهزة التلفزيون، فيما يعرف بتقنية "الكيوليد" المعروفة بألوانها الزاهية ودقتها العالية، كما تستخدم في تتبع الخلايا السرطانية داخل الجسم لأنها تضيء بطريقة واضحة.
وتبدأ صناعة المحفز الشمسي الجديد بتكوين نواة من كبريتيد الكادميوم المثالية للنقاط الكمومية، إذ تمتص الضوء المرئي بكفاءة، وتُطلق إلكترونات عالية الطاقة أو ما يعرف باسم (الإلكترونات الساخنة) عندما تُضاء. كما يسهل التحكم في حجمها وشكلها أثناء التصنيع النانوي، وهذا يسهل من تغيير خصائصها البصرية. ولكن الإلكترونات الساخنة التي ينتجها كبريتيد الكادميوم طاقتها محدودة، وعمرها قصير، أي أنها ليست كافية لتفعيل التفاعلات الكيميائية الصعبة.
من هنا تأتي الحاجة لتطعيم النواة بأيونات المنجنيز ذات القدرة الخارقة على تخزين الطاقة مؤقتا. ويعمل مثل محطة تقوية لطاقة الإلكترونات، فيمسك بالإلكترون مؤقتا، ثم يعيد ضخه بطاقة أعلى في اللحظة المناسبة. ثم تنتهي العملية بتغليف النواة المُطعمة بطبقة رقيقة من كبريتيد الزنك. هذه الطبقة النهائية تثبت البنية وتقلل من العيوب السطحية وتحسن التفاعل بين المكونات، ما يعزز نقل الطاقة داخل الجسيمات النانوية ويزيد من كفاءة توليد الإلكترونات الساخنة.
ويعلق قاسم "عند إضاءة المحفز بالضوء المرئي، تولد النقاط الكمومية المطعمة بالمنجنيز إلكترونات عالية الطاقة. إذ تتضمن هذه الآلية نقلا فائق السرعة للطاقة بين أيونات المنجنيز المُثارة والنقاط الكمومية. وتنتقل الإلكترونات الساخنة بعد ذلك إلى المركبات العضوية مما يُحفز تفاعلات صعبة مثل إزالة الهالوجينات، واختزالات بيرش، وانقسام الروابط الخاملة عند جهود اختزال قصوى تصل إلى 3.4- فولتات، وهي حدود كان من الصعب الوصول إليها إلا في ظل ظروف قاسية".
من المذهل أن هذه التقنية تعمل تحت شدة إضاءة منخفضة جدا، بكثافة ضوء أقل من الإشعاع الشمسي المعتاد. ويعلق قاسم "إن تحقيق تفاعلات تحفيز ضوئي في ظل شدة إضاءة منخفضة، ضمن نطاق ضوء الشمس الطبيعي، يجعل هذه التقنية قابلة للتطبيق في مجالات الطاقة الشمسية من دون الحاجة إلى مصادر إضاءة صناعية مكثفة".
وقد نجح الفريق في إحدى التجارب في استخدام الضوء الأزرق لتحفيز التفاعل الكيميائي، وحققوا نسبة إنتاج وصلت إلى 88% من المنتج المستهدف بتركيز محفز منخفض جدا تبلغ 0.001 مول%. وهو ما يمثل أعلى كفاءة باستخدام محفزات تعتمد على النقاط الكمومية.
ويمكن أن تشمل التطبيقات المستقبلية لهذه التقنية إنتاج الأدوية الفعالة بتكلفة أقل، وإعادة تدوير المواد الكيميائية الملوثة، وتحفيز تفاعلات عضوية معقدة في ظروف طبيعية، وبناء منصات للطاقة الكيميائية تعمل بالطاقة الشمسية. ويشير قاسم إلى الأثر الأكبر لهذا الابتكار قائلا: "سواء كان الأمر يتعلق بتصنيع أدوية جديدة، أو إعادة تدوير مواد، أو تنظيف البيئة، فإن هذه النقاط الكمومية ستشكل ثورة في كيفية بناء جزيئات المستقبل".
إنها خطوة جديدة نحو كيمياء خضراء أكثر ذكاءً، وقد تقود مستقبلا مختلفا تماما؛ إذ تصبح الشمس مصدرا مركزيا للطاقة على كوكبنا للتجاوز دورها في ولادة كوكبنا وتغذية نباتاته إلى صناعته وتقدمه وطاقته وازدهاره.