سرايا - يشهد ملف التقاعد المبكر في الأردن جدلا متصاعدا في ظل تحذيرات متجددة من تفاقم أعبائه على استدامة صندوق الضمان الاجتماعي، وسط استمرار السياسات الحكومية في إحالة أعداد كبيرة من الموظفين إلى التقاعد القسري.
وتشير التقديرات إلى أن 54 % من المتقاعدين حاليا هم من متقاعدي "المبكر"، فيما تستحوذ رواتبهم على نحو 62 % من إجمالي فاتورة التقاعد والاعتلال، وهو ما يُنذر باقتراب نقطة تعادل النفقات مع الإيرادات بحلول عام 2031.
ويؤكد متخصصون أن السياسات الحكومية الحالية تسهم بتسريع الخطر، خصوصا عبر إنهاء خدمات موظفي القطاع العام دون وجود بدائل تمويلية مستدامة، أو خطط جدية لتوسيع قاعدة المشمولين بالضمان.
ويرون أن الإجراءات تتركز على تقليص النفقات، أحيانًا على حساب الحمايات، بدلًا من معالجة الخلل عبر زيادة الإيرادات وتحفيز الشمول التأميني.
ويطالب الخبراء بقرارات عاجلة لكبح النزيف المالي، وإنقاذ المنظومة من مسار قد يؤدي لتعديلات قاسية واحتقان اجتماعي وشيك.
خطر متزايد
من جهته قال مدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية أحمد عوض، إن التوسع بإحالة الموظفين على التقاعد المبكر القسري يشكل خطرا متزايدا على استدامة الضمان الاجتماعي في الأردن، داعيا لمراجعة جادة للسياسات والممارسات التي أوصلت المنظومة إلى هذه المرحلة من الهشاشة والضغط المالي.
وأكد عوض أن التقاعد المبكر يجب أن يبقى خيارا طوعيا للموظف، لا أداة تستخدمها الجهات العامة أو الخاصة لإنهاء الخدمة أو تخفيض أعداد العاملين، مشددا على أن هذا النوع من الإنهاء القسري يتعارض مع مبادئ العدالة والاستقرار، ويحرم الموظف من حقه في العمل والإنتاج.
وأشار إلى أن أكثر من نصف المتقاعدين في الأردن حاليًا هم من متقاعدي المبكر، وهو ما يُشكل عبئا كبيرًا على صندوق الضمان الاجتماعي، ويهدد قدرته على الإيفاء بالتزاماته المستقبلية، بخاصة مع غياب بدائل تمويلية مستدامة، واستمرار الاعتماد على استثمارات أموال الضمان في أدوات حكومية.
وأضاف أن هذه السياسة تُحدث اختلالات واضحة في سوق العمل، إذ يعود كثير من المتقاعدين ممن هم في سن النشاط الاقتصادي للسوق بحثا عن دخل بديل، مما يزيد من الضغط على فرص العمل ويُفاقم من مشكلة البطالة بين الشباب، وهو ما يتناقض مع أهداف الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية.
ولفت إلى أن تعزيز الثقة العامة بمنظومة الضمان الاجتماعي بات ضرورة ملحة، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا عبر حوكمة شفافة ومستقلة لأموال الضمان وقراراته الاستثمارية، بما يضمن حماية حقوق المشتركين، ويُعيد بناء الثقة، خاصة بين الشباب الذين بدأوا يفقدون الحافز للانخراط في النظام.
واكد على أن السياسات الحكومية، مثل تخفيض اشتراكات الشيخوخة والعجز والوفاة للشباب دون الـ30، تضعف العدالة التأمينية، وتنتج أجيالا برواتب تقاعدية منخفضة، ما يزيد من فجوات الحماية الاجتماعية بدلاً من ردمها، داعيًا إلى مراجعة هذه التوجهات لتصحيح المسار.
إضرار مباشر بالضمان
من جانبه قال خبير التأمينات والحماية الاجتماعية موسى الصبيحي، إن استمرار الحكومة بإحالة آلاف الموظفين على التقاعد المبكر القسري، رغم علمها بالآثار المالية السلبية لذلك، يعد إضرارا مباشرا وخطيرا بالمركز المالي لمؤسسة الضمان الاجتماعي، وتهديدا صريحا لديمومة نظامها التأميني.
وأضاف أن "الضمان"، التي أصبحت جزءًا من الماكينة الحكومية، تلتزم الصمت، وكأنها تقرّ هذا التوجه الخطير، متسائلًا: "مع من نتحدث إذا كانت الحكومة نفسها ماضية في هذا الأذى؟".
وأوضح أن فاتورة رواتب التقاعد المبكر تستحوذ حاليًا على نحو 62 % من إجمالي فاتورة التقاعد والاعتلال، وأن نسبة متقاعدي المبكر بلغت 54 % من إجمالي المتقاعدين التراكميين، وهي في ازدياد مستمر.
وأشار الصبيحي إلى أن نفقات الضمان التأمينية تجاوزت 85 % من إيراداتها التأمينية لأول مرة في تاريخ المؤسسة منذ 45 عاما، محذرا من أن نقطة الخطر الأولى، وهي نقطة تعادل النفقات مع الإيرادات، ستقع في عام 2031.
واختتم قائلًا إن موجودات الضمان حاليًا تقل عن 10 أضعاف نفقاتها المقدّرة خلال السنة العاشرة من التقييم الاكتواري، مؤكدًا أن على الحكومة تحمل مسؤولياتها واتخاذ إجراءات تصحيحية حقيقية، قبل أن تجد نفسها مضطرة خلال أقل من عام لتقديم تعديلات قاسية على قانون الضمان، قد تُشعل موجة غضب اجتماعي واسعة.
توسيع التغطية
بدوره حذر الناشط في مجال حقوق العمال حاتم قطيش من أن السبب الجوهري وراء تفاقم كلفة التقاعد المبكر في الأردن يعود إلى السياسات الحكومية المتعلقة بإنهاء خدمات موظفي القطاع العام، داعيا لقرار حكومي عاجل وحاسم بوقف هذه الإنهاءات التي تُسرّع وتيرة الوصول إلى نقطة التعادل الخطرة في صندوق الضمان الاجتماعي.
وقال قطيش إن مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها مؤسسة الضمان الاجتماعي، باتت تعتمد إجراءات تركّز على تحقيق مردود مالي سريع عبر تقليص النفقات، وهو ما يتم غالبًا على حساب الحمايات الاجتماعية، بينما تغيب الخطط الجادة التي تستهدف زيادة الإيرادات وتوسيع مظلة الشمول.
وأضاف: "من المعروف أن إبعاد نقطة التعادل يمكن أن يتم بطريقتين: إما تقليل النفقات أو زيادة الواردات، وإذا كنا جادين فعلاً في إصلاح السياسة المالية للضمان، فلا بد من ترشيد النفقات دون المساس بالحمايات، بالتوازي مع العمل على زيادة الإيرادات عبر إدماج مزيد من العاملين غير المشمولين حاليا بنظام الضمان الاجتماعي".
وأكد أن استمرار الاعتماد على أدوات التقشف وتقليل الحمايات سيُضعف النظام على المدى الطويل، مشددا على أن الحلول الحقيقية تكمن بتعظيم الاشتراكات وتوسيع التغطية، لا في التضييق على حقوق المؤمن عليهم.
الغد