"لا أحد بإمكانه منع إسرائيل من ضرب أعدائها"، هكذا قال ستيف ويتكوف، وهذا ما يردده المجرم نتنياهو بمناسبة وبغيرها.
فالعدوان الذي استهدف الوفد المفاوض من قيادة حماس في العاصمة القطرية الدوحة، شكل سابقة خطيرة وتجاوزا عالي المخاطر.
فالدوحة وسيط في المفاوضات غير المباشرة بين حماس وإسرائيل إلى جانب الولايات المتحدة ومصر، والاعتداء على سيادتها اعتداء على القانون الدولي.
وهو يعني كذلك إطلاق رصاصة الرحمة على الجهود المبذولة لوقف العدوان ورفع الحصار عن غزة، وإدخال المساعدات لإنقاذ الأطفال والنساء من حرب التجويع التي اهتز لمشاهدها أحرار العالم من قاراته الخمس.
فإسرائيل تضرب في كل مكان، دون أن تستطيع استرجاع أسراها من قبضة المقاومين، ودون أن تنجح في تغيير صورتها التي ازدادت بشاعة ورفضا في كل أصقاع الدنيا، وهي تدرك بتجربتها الطويلة في القتل والاغتيالات الغادرة، أنها لن تجني من ذلك سوى أنها كيان محتل، قاتل ومارق.
فإسرائيل لا يبدو أنها مرتاحة لنتائج حربها الأخيرة التي خاضتها ضد إيران. فما يجري على ألسنة قادة كيان الاحتلال من تدمير قدرات إيران النووية بأيادٍ أميركية، يبقى بعيدا عن الواقع الذي يثبت أن البرنامج النووي الإيراني ما زال مطروحا بقوة كتحدٍ، يستدعي من الولايات المتحدة وإسرائيل والترويكا الأوروبية، التحرك في كل الاتجاهات وعلى كل الصعد والمستويات لنزع هذا الخطر، ومنع إيران من دخولها نادي الدول النووية التي تنفرد بامتلاك السلاح النووي الفتاك الذي يمنحها قوة ردع ويشعرها بالتفوق والقدرة على حماية أمنها القومي.
هذه واحدة من صور عالم اليوم الذي يمشي على رأسه بدلا من قدميه، يحمي كيانا عدوانيا، يمتلك أكثر من 200 رأس نووي، ويشن حروبا عدوانية، ويفرض عقوبات اقتصادية على إيران حتى وإن أعلنت نهارا جهارا، عدم سعيها لامتلاك سلاح نووي.
لذلك يدرك المجرم نتنياهو وعصابته أن المشكلة أكبر من السلاح النووي الذي يهدد إسرائيل في المنطقة. فالتفوق العسكري والقتل والإبادة من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، لم تمنحهما لا قبولا بسيطرتهما ولا خضوعا لهيمنتهما، بل زاد انحدار سمعتهما التي كانت يحوم حولها العنف وإثارة القلاقل والحروب.
فإسرائيل بغطرستها وتغولها، تسعى لأن تصبح القوة الضاربة، وصاحبة الأمر والنهي في المنطقة.
فالحرب التي أشعلتها إسرائيل ضد إيران في 13 يونيو /حزيران 2025 قبل موعد جولة المفاوضات الأ ميرك ية الإيرانية بيومين ، كبدت إيران أضرارا لا يمكن إخفاؤها، أو التقليل من فداحتها.
فكيان الاحتلال تمكن بواسطة أسراب من طائراته التي بلغت الـ 200 من اغتيال نحو عشرين من كبار ضباط الحرس الثوري والقوات المسلحة الإيرانية، وتسعة من أبرز علماء البرنامج النووي، واستهداف محطات نووية ومراكز تصنيع الصواريخ الباليستية، ومنشآت إنتاج الطائرات المسيرة.
وبالمقابل استطاعت إيران أن تضرب عمق كيان الاحتلال، ولم تتمكن مختلف أنظمة الدفاع الجوي- ومنها نظام Arrow، والقبة الحديدية، ومقلاع داود، ومنظومة Patriot- أن تمنع الصواريخ الباليستية الإيرانية من ضرب أهدافها، وبث الرعب داخل كيان الاحتلال الذي أُرغم على العيش في الملاجئ.
فهل إسرائيل التي فشلت في كل حروبها في المنطقة، قادرة على شن حرب جديدة ضد إيران؟ وهل الإدارة ال أميرك ية برئاسة ترامب ستسير وراء حماقات نتنياهو؟ وهل الغرب بقيادة أميرك ا لا يدرك مخاطر التحولات الجارية في ميزان القوة العالمي؟
إسرائيل غارقة في رمال غزة، فهل تقوى على شن عدوان ضد إيران رغم أنها خاضت حربا هي الأطول في تاريخها ضد غزة، وامتدت يد إجرامها إلى لبنان وسوريا وإيران واليمن، فلم تتمكن من إنجاز أهداف عدوانها؟
كما لم تنفعها شراكة الإدارة الأميركية في الحرب ولا الدعم المطلق الذي حازته من عدد من الدول الأوروبية التي سخرت آلتها الإعلامية لترويج الرواية الإسرائيلية ومدتها بالمال والسلاح للبطش بالأطفال والنساء والشيوخ.
ورغم أكثر من 700 يوم من التدمير والتخريب وحرب الإبادة، فشل نتنياهو في إرغام الأهالي على رفع الراية البيضاء. لم يسعفه القتل والتجويع والحصار في هزيمة إرادة البقاء والصمود لدى الشعب الفلسطيني.
فنتنياهو يبدو هائما على وجهه ولم تغير الاغتيالات الغادرة التي ارتكبها في لبنان وإيران واليمن ضد القيادات السياسية والعسكرية من صورته المهزوزة كمجرم، تطارده دعاوى جنائية في الداخل والخارج.
والحال أن محور المقاومة الذي تضرر بسبب اختراقات أمنية، ضربة البيجر على سبيل المثال، ما زال الشغل الشاغل لأميركا وإسرائيل. أما اليمن فرغم اغتيال رئيس الحكومة أحمد الرهوي التابعة لحركة أنصار الله الحوثي وعدد من الوزراء، يواصل ضرباته الصاروخية الفرط صوتية، ويستمر في منع السفن المتجهة نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة غير آبه بالتهديدات والضربات التي تسعى إلى وقف الصواريخ اليمنية، ورفع الحصار عن السفن المتجهة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولعل أخطر ما يقلق نتنياهو وحلفاءه أن يتحول كل هذا الاستثمار في القتل والإجرام إلى عزلة وإدانة واسعة، وهذا ما يشهده العالم من عودة وصحوة الضمير الإنساني، حيث أصبحت السردية الصهيونية عارية أمام حقائق الواقع ومشاهد التقتيل الأعمى.
والأخطر من ذلك أن دولا أوروبية شرعت في تغيير موقفها وباتت في حالة تناقض مع قيمها ومبادئها في الدفاع عن القانون الدولي وحقوق الإنسان. فإسبانيا تتصدر بمواقفها المتقدمة مناهضة كيان الاحتلال، حيث أوقفت مختلف أشكال العلاقات التجارية، وعلى رأسها مرور السفن المحملة بالأسلحة والذخيرة عبر موانئها.
لم توفر أميركا وإسرائيل سبيلا للإضرار بإيران إلا سلكتاه. وفي الآونة الأخيرة لاحظنا كيف أن باكو عاصمة أذربيجان تحولت إلى قبلة ومكان مفضل لإجراء مفاوضات كلها تصب في خدمة إسرائيل، وضد إيران وحلفائها.
فأذربيجان شكلت على المستوى الإستراتيجي والاستخباري والدبلوماسي الوجهة المفضلة أميركيا وإسرائيليا. ومشاريع الممرات والطرق الجديدة التي تشرف عليها الإدارة الأميركية، أهدافها بعيدة وتسعى من ورائها ليس فقط إلى إضعاف إيران وحدها بل إلى تعطيل صعود القطب الذي تمثل الصين وروسيا أهم أعمدته.
فالعمل جارٍ على ممر "زنغزور" في الأراضي الأرمينية، والهدف هو منع اتصال إيران بروسيا عبر أرمينيا. وهناك أعمال مكثفة لتفعيل الممر بطول 50 كيلومترا في مقاطعة سونيك الأرمينية.
والمثير أن المبعوث الأميركي إلى سوريا والسفير في أنقرة توماس بارّاك، هو من يقود هذا المسار، ويجري حديث عن استئجار مساحة الممر لـ 99 عاما.
فممر "زنغزور" جاء بديلا عن ممر "أراس" الذي من المنتظر أن يربط الأراضي الأذربيجانية بإقليم نخجوان عبر الأراضي الإيرانية. والحال أن ترامب سابق الزمن وتمكن من تعطيل ممر "أراس"، عبر إشرافه على اتفاق بين أذربيجان وأرمينيا، وفي ذلك تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة تموضعها في جنوب القوقاز.
فمنطقة أوراسيا ببعدها الجيوسياسي، تعد واحدة من أهم المناطق في العالم، وليس مستغربا أن يعتبرها المستشار السابق للأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي قلب العالم ومركز القوة العالمي الجديد.
فكل هذه التحركات تهدف إلى تطويق إيران وتعميق معاناتها الجيوبوليتيكية. فرسم الخرائط وإعادة تشكيلها وفق الرؤية الأميركية والإسرائيلية، تسعى من ورائه الولايات المتحدة إلى تفكيك القوة والنفوذ الإيراني.
لكن الرياح التي هبت بقوة في قمة شنغهاي الأخيرة والتي أطلقت صافرة ولادة قطب جديد وواعد في خلق التوازن العالمي الذي انهار عقب تفكك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشرقية، تسير بخطى ثابتة وتؤسس لمجال جديد وبديل للحركة التجارية والنقدية، بعيدا عن سيطرة الغرب بقيادة الولايات المتحدة التي ملأت الدنيا عقوبات ورسوما جمركية لم يسلم من لهيبها حتى حلفاء أميركا.
فقمة شنغهاي التي تسعى لمنافسة مجموعة الثمانية، أعلنت تضامنها مع إيران، وأصبحت سوقا تتسع لمنتوجات إيران النفطية التي أرهقتها العقوبات الشديدة التي تفرضها الإدارة الأميركية، وتستعد الترويكا الأوروبية لإعادة تفعيل عقوبات "سناب باك".
الترويكا الأوروبية والانحياز الأعمى
تشعر إيران أنها في مواجهة مفتوحة مع الثلاثي الأميركي والأوروبي والإسرائيلي على خلفية برنامجها النووي. فالترويكا الأوروبية صبت الزيت على النار بتهديدها بتفعيل آلية العقوبات السريعة على إيران، وهي الآلية المعروفة بآلية الزناد (سناب باك).
وإضافة للظرف الحرج التي لجأت فيه الدول الأوروبية الثلاث: فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا إلى تصعيد الموقف، وخاصة بعد الهجوم الأميركي على المنشآت النووية الإيرانية، فإن إيران لا ترى في توجه الدول الأوروبية الأهلية القانونية والأخلاقية التي تخولها اللجوء إلى قرار العودة إلى العقوبات.
وهو الاتجاه الذي قد يؤدي إلى نسف إيجاد حل ومخرج للأزمة التي سببها الانسحاب الأميركي 8 مايو/أيار 2018 من الاتفاق النووي الإيراني الذي تم التوقيع على خطته الشاملة 14 يوليو/ تموز 2015 مع مجموعة "5+1".
فإيران- وحلفاؤها الذين خرجوا من معركة إسناد غزة بأضرار لا تخطئها العين- تدرك أن الظرف يتطلب كثيرا من الدبلوماسية، وقليلا من اللجوء إلى التصعيد لإعادة بناء ما تم تدميره من قدرات، أخلت بميزان القوة أمام كيان الاحتلال وشركائه الغربيين.
والحال أن الدول الأوروبية بتهديدها إيران بإعادة العقوبات، تكون قد اختارت الاصطفاف والانحياز الأعمى إلى جانب الإدارة الأميركية وإسرائيل، وبدلا من أن تكون جزءا من الحل باتت جزءا من المشكلة.
تتميز علاقة الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع إيران بتأرجحها بين الشدة والانفتاح. وهو الأمر الذي يطرح استقلالية الوكالة عن الضغوط الأميركية والإسرائيلية. لكن لا تحظى الوكالة بثقة الإيرانيين الذين يرون في تقاريرها، تحاملا ضد بلدهم وذريعة هيأت الأجواء للولايات المتحدة لشن هجومها الأخير على المنشآت الإيرانية.
فالتقرير الذي صدر سرا عن مدير الوكالة رافائيل غروسي تضمن جنوح إيران إلى تسريع وتيرة إنتاج اليورانيوم العالي التخصيب بنسبة 60٪، وهي النسبة التي ترفع من منسوب مخاوف الغرب وإسرائيل رغم أن تأكيد إيران على سلمية برنامجها النووي.
لكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإيران، يبدو أنهما خرجتا من عنق الزجاجة في اللقاء الثلاثي الذي احتضنته القاهرة بين كل من وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، ونظيره المصري بدر عبدالعاطي والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي.
وهو اللقاء الذي من المنتظر أن يخفف من الأزمة بين إيران من جهة والولايات المتحدة والترويكا الأوروبية من جهة ثانية. ويعطي الاتفاق لإيران مصداقية أكبر انسجاما مع تأكيدها على الطبيعة السلمية لبرنامجها النووي.
وإذا كان الاتفاق سيسمح بعودة مفتشي الوكالة إلى المنشآت الإيرانية فإنه بالمقابل يجب أن ينهي كل ما من شأنه التلويح بعودة العقوبات الأوروبية على إيران.
تدرك إيران كما تدرك الولايات المتحدة وإسرائيل أن المعركة، تبقى مفتوحة بشتى الطرق والأشكال، فالتناقض وهوة الخلافات الحادة لن تنجح الدبلوماسية في جسرهما، بل على الأرجح قد تؤجلهما لبعض الوقت.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.