في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
"لن نسامح ولن ننسى. إنها حرب بقاء!"
بتلك الكلمات بدأ إيال زامير حقبته رئيسا لأركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، بعد تعيينه من طرف حكومة بنيامين نتنياهو في مارس/آذار الماضي، متشدِّقا بنجاحات إسرائيل العسكرية المزعومة في قطاع غزة وجنوب لبنان وسوريا واليمن.
على الأرجح أن زامير يعرف عن اليمن وسوريا أكثر بكثير من بعض أقرانه، إذ إن جده لأبيه هاجر إلى فلسطين في عشرينيات القرن الماضي قادما من اليمن، وشارك في قتال العرب بعد أن انضم لصفوف عصابة الإرغون آنذاك، كما أن عائلة والدته تنحدر من شمال سوريا.
لم يتخلَّف الأب يوما عن القتال، وقد اضطُرت الأسرة كلها للانتقال إلى مدينة إيلات الساحلية في أقصى الجنوب بسبب خدمة أبيه هناك عقيدا في الجيش، وهي المدينة التي وُلِد فيها إيال عام 1966.
سار إيال على خطى أبيه وجدِّه، وانضم إلى مدرسة عسكرية داخلية وهو ابن 14 عاما فقط، ثم بدأ الخدمة العسكرية وهو ابن 18 عاما، قبل أن يحصل على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة تل أبيب، وعلى ماجستير الأمن القومي من جامعة حيفا، ويواصل دراساته العُليا في مجال الإدارة بجامعة بنسلفانيا الأميركية، وفي الكلية العسكرية الفرنسية نهاية التسعينيات.
منذ عمل زامير سكرتيرا لرئيس الوزراء نتنياهو عام 2012، توطَّدت العلاقة بين الرجلين، وبدأت معركة الأخير من أجل إيصال إيال إلى سُدة رئاسة الأركان، وهو ما خاض من أجله محاولتين سابقتين، حتى نجح أخيرا في المرة الثالثة.
"لقد بدأ عصر زامير"، هكذا قالها نتنياهو وهو يحتفل مع صديقه بتعيينه رئيسا للأركان قبل أسابيع قليلة، ليصبح بذلك أول يهودي من أصول شرقية يشغل ذلك المنصب الرفيع الذي احتكره اليهود الغربيون "الأشكيناز" منذ تأسيس دولة الاحتلال.
في خضم الضغوط السياسية والعسكرية التي تواجهها حكومة بنيامين نتنياهو، وبعد أكثر من 18 شهرا من الحرب على غزة لم تتحقق خلالها أهداف إسرائيل المُعلنة، جاء تعيين اللواء إيال زامير رئيسا لأركان جيش الاحتلال في مارس/آذار الماضي، في خطوة ذات أبعاد متعددة، تتجاوز مجرد التغيير الشكلي في القيادة.
وأتى التغيير بعدما استقال رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي في يناير/كانون الثاني الماضي بعد إعلان وقف إطلاق النار مع قطاع غزة، معلنا أنه يتحمل مسؤولية الفشل الكبير لجيش الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق أهداف الحرب.
زامير، الذي لم يكن داخل المؤسسة العسكرية أثناء هجوم 7 أكتوبر 2023، يُمثِّل خيارا آمنا لنتنياهو؛ فهو ليس بعيدا فحسب عن تحمُّل تبعات الإخفاق الأمني الذي هزَّ صورة الجيش، وإنما هو أيضا حليف سياسي يتبنى خطاب الحكومة المُعلَن عن "الحرب الوجودية" المتواصلة في القطاع.
تبدو مسيرة زامير العسكرية مختلفة جذريا عن سابقيه من رؤساء الأركان، الذين ارتبطت أسماؤهم بقيادة وحدات نخبوية مثل "المظليين" و"غولاني" و"شالداغ"، أو بإدارة حروب كبرى مثل مواجهة حزب الله في لبنان عام 2006 أو حروب غزة المتتالية. فزامير، الذي التحق بالجيش عام 1984، قضى معظم خدمته في سلاح المدرعات، دون أن يخوض أي حرب قائدا ميدانيا، أو يتولَّى مناصب استخبارية أو عسكرية بارزة.
غير أن زامير سرعان ما برز إلى الواجهة مع تعيينه سكرتيرا عسكريا لنتنياهو (عام 2012) ثم قائدا للمنطقة الجنوبية عام 2015 (وهو المنصب الأرفع في مسيرته)، ويُعتقد أنه تولى مهمة مواجهة شبكة أنفاق حماس في وقت مبكر نسبيا. ويلفت كثيرون النظر إلى أن ترقية زامير جاءت بعد 30 عاما في الخدمة، بعد مسيرة وُصفت بالبطيئة مقارنة بأقرانه.
هذا التباين يَظهر جليا عند مقارنته برؤساء الأركان الأربعة السابقين: بيني غانتس ، و غادي آيزنكوت ، وأفيف كوخافي، وهرتسي هاليفي، الذين تولوا المنصب وهم في أعمار تتراوح بين 52 و55 عاما، بينما دخل زامير المنصب في سن 59، ليكون أكبر قائد أركان سِنا في تاريخ الجيش الإسرائيلي.
يُضاف إلى ذلك أن القادة الثلاثة السابقين خاضوا ثلاث حروب على الأقل وهُم في القيادة، حيث شارك غانتس وآيزنكوت وكوخافي في ثلاث من الحروب الأربع الرئيسية التي خاضتها إسرائيل طيلة العقديْن الماضيين، وهي حرب لبنان 2006 وحروب غزة الثلاثة 2009 و2012 و2014، في حين شارك هاليفي في واحدة فقط.
على النقيض يفتقر زامير إلى أي خبرة قتالية مباشرة، إذ اكتفى بأدوار إدارية مديرا عاما لوزارة الدفاع، ونائبا لرئيس الأركان أثناء إخفاقات عسكرية عديدة، مثل عملية خان يونس الفاشلة عام 2018، كما أنه كان خارج الجيش طوال عام ونصف العام من الحرب على غزة في أعقاب 7 أكتوبر، بعد أن شغل منصب نائب رئيس الأركان أثناء معركة سيف القدس في مايو/أيار 2021.
لا يُخفي تعيين زامير سعي نتنياهو إلى توظيف المؤسسة العسكرية لخدمة أجندته السياسية، فقد عُرف زامير بموالاته لرؤية نتنياهو أثناء عمله سكرتيرا عسكريا له، وحتى بعد ذلك. وفي وقت سابق، تبنى زامير نهجا ناعما مرحليا تجاه حركة حماس، تماشيا مع سياسة نتنياهو آنذاك (حين كان مقتنعا أن حماس ليست راغبة في خوض مواجهة مع إسرائيل)، قبل أن يتحول فجأة إلى خطاب "الحرب الوجودية" ذاته الذي يرفعه نتنياهو اليوم. تلك العلاقة الوثيقة جعلت الإعلام الإسرائيلي يصفه برجل نتنياهو في الجيش، بينما رأى مراقبون أن تعيينه الأخير محاولة لعسكرة السياسة وتجييش الخطاب العام نحو حرب طويلة.
لكن اختيار زامير يحمل مفارقة أخرى مثيرة للانتباه، فالجيش الإسرائيلي، الذي بُنيَت أسطورته على المهنية والانفصال عن السياسة، بات يُدار الآن عن طريق قائد يُنظر إليه بوصفه وجها سياسيا أكثر منه عسكري، وهو تحوُّل يعكس أزمة عميقة في المؤسسة العسكرية التي بدأت تفقد هيبتها بعد فشلها في منع هجوم 7 أكتوبر، وتكبُّدها خسائر غير مسبوقة في غزة.
لدى نتنياهو وزامير تصورات مشتركة حول دور الخدمة العسكرية في حماية إسرائيل، وهي تصورات تعتنق أفكارا يمينية صُممت لمواجهة أفكار إيهود باراك الأكثر ليبرالية كما وُصِفَت حينها. وقد سعى الرجلان لفترة طويلة لوضع رؤيتهما موضع التنفيذ بداية من عام 2016، حين حاول نتنياهو للمرة الأولى دفع زامير إلى منصب نائب رئيس الأركان، في صراع مع وزير الدفاع حينها أفيغدور ليبرمان، الذي رفض الترشيح وفضَّل أفيف كوخافي.
هنا تحديدا بدأت لعبة نتنياهو الطويلة، فبعد استقالة ليبرمان عام 2018 احتجاجا على فشل عملية خان يونس ، استغل نتنياهو فراغ منصب وزير الدفاع، واختار ألا يُعيِّن خلفا له، بل احتفظ بالمنصب لنفسه، مُتحكِّما مباشرة في تعيين زامير نائبا لرئيس الأركان. كانت هذه الخطوة الأولى نحو تحويل زامير إلى المرشح الوحيد لمنصب القيادة، عبر إزاحة جميع المنافسين المحتملين.
واجه نتنياهو تحديات كبيرة في ترشيح زامير، لا سيَّما مع ظهور مرشحين أقوياء مثل هرتسي هاليفي، الذي تمتع بشعبية داخل المؤسسة العسكرية باعتباره الخليفة المنطقي لأفيف كوخافي. ولكن لتحييد هذا التهديد، انتهج نتنياهو استراتيجية مزدوجة، فعرض أولًا على هاليفي عام 2020 منصبين هامشييْن، هما السكرتير العسكري لرئيس الوزراء أو رئاسة الموساد، محاولا بذلك إبعاده عن المسار العسكري الرئيسي، لكن هاليفي رفض، مفضلا البقاء في قلب المؤسسة العسكرية.
ثم استغل نتنياهو التناوب الحكومي عام 2022، حين أُبعِد عن السلطة مؤقتا ثم عاد بعودة حكومة اليمين، كي يعيد فتح ملف رئاسة الأركان، مُكرِّسا جهده لخلق فرص جديدة لزامير.
لم تكن إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 سوى خطوة متوقعة في مسار طويل من الإقصاءات، إذ باستبداله لصالح يسرائيل كاتس -الموالي لنتنياهو- باتت وزارة الدفاع أداة طيِّعة في يد رئيس الوزراء، ما سمح له بإزالة العقبات الأخيرة أمام تعيين زامير. وهكذا، حوَّل نتنياهو المؤسسة الأمنية إلى ساحة لتصفية الحسابات السياسية، معتمدا على الولاءات الشخصية أكثر من الاعتبارات المهنية.
يعكس تعيين زامير إذن تناقضا جوهريا داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، فبينما يتمتع هاليفي بخبرة ميدانية واسعة في قيادة الوحدات الخاصة وإدارة الحروب المعقدة، يقتصر مسار زامير على الأدوار الإدارية البعيدة عن ساحات القتال.
هذا التباين ولَّد شكوكا حول قدرته على قيادة الجيش في ظل تحديات إقليمية متصاعدة، خاصة مع تبنيه خطاب نتنياهو السياسي حول "تغيير وجه الشرق الأوسط"، ما عزَّز الانطباع بأن التعيين يستجيب لأجندة حكومية أكثر من كونه اختيارا مهنيا.
أبعد من ذلك، يُجسِّد صعود زامير تحديا لاستقلالية الجيش التقليدية، التي ظلت لسنوات حاجزا ضد تسييس المناصب العسكرية. فتعيينه يُشير إلى صعود جيل جديد من القادة الذين تدرجوا تحت هيمنة اليمين، مما يُضعِف هيمنة النخبة العسكرية القديمة التي ارتبطت بمعايير الكفاءة والحياد.
هذا التحول لا يهدد تماسك المؤسسة العسكرية الإسرائيلية فحسب، بل قد يُعمق انقساماتها الداخلية بين من يؤيدون الولاء للحكومة ومن يتمسكون بأسس المهنية العسكرية.
ميدانيا لا يبدو أن طريق زامير لإثبات نفسه وسط الشكوك سيكون مفروشا بالورود. ويُظهر الواقع اصطدام تصوُّرات زامير حول التفوُّق الإسرائيلي مع قدراته الفعلية والتعقيدات التي يفرضها الميدان في مواجهة تكتيكات المقاومة المسلحة في غزة.
فمشروع "الجدار التكنولوجي" تحت أرض غزة، الذي كلف 1.2 مليار دولار واعتُبر حلا استراتيجيا لتحييد أنفاق المقاومة أثناء قيادته للمنطقة الجنوبية، تحوَّل إلى فشلٍ ذريع في غضون ساعات مع اقتحام السابع أكتوبر، حين اخترقت المقاومة الجدار الشبكي العلوي بسهولة.
هذا الإخفاق لم يُكذِّب ادعاءات زامير فحسب، بل كشف عن خلل جوهري في فهمه لطبيعة المواجهة، حيث راهن على حلولٍ تقنية بينما طوَّر خصومه تكتيكات بسيطة لتفاديها، وذلك رغم أنه محسوب على معسكر الاعتماد على المواجهات العسكرية التقليدية في مواجهة معسكر الاعتماد على التفوُّق التكنولوجي المحض، وهو ما حدا به إلى الدفاع عن توسيع نطاق التجنيد وإضافة ألوية جديدة إلى جيش الاحتلال.
بالمثل، تصطدم تصريحات زامير حول "التصنيع العسكري المستقل" بواقعٍ مرير، فميزانية الدفاع الإسرائيلية، رغم بلوغها 30 مليار دولار عام 2025، تُستهلك في تغطية نفقات الحرب اليومية، بينما تعتمد إسرائيل بشكلٍ حاسم على المساعدات الأميركية (3.8 مليارات دولار سنويا) لتأمين أسلحة متطورة مثل المقاتلات والغواصات النووية.
وحتى نظام الدفاع الجوي الذي يفخر به جيش الاحتلال، يعتمد على صواريخ "تامير" الأميركية التي تعد عنصرا أساسيا في نظام القبة الحديدية. وتُظهِر هذه التناقضات أن خطاب زامير حول التصنيع المستقل مجردُ خطاب دعائي لا يستند إلى بنيةٍ صناعية أو مالية قادرة على الاستغناء عن الدعم الخارجي بالفعل.
ورغم تحقيق فائض في الميزان التجاري العسكري الإسرائيلي بلغ 2.3 مليار دولار على مدار 7 سنوات (بمتوسط 380 مليون دولار سنويا) وفقا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي للسلام، فإن هذه الأرقام تظل هامشية مقارنة بما تحتاجه عملية تطوير صناعة عسكرية محلية مستقلة.
ففي حربها الأخيرة على غزة، تلقَّت إسرائيل مساعدات عسكرية أميركية طارئة قيمتها 14 مليار دولار، معظمها وقود وذخائر، مما يؤكد اعتمادها شبه الكلي على الدعم الأميركي في الحروب الكبرى. هذا الاعتماد تجلى بوضوح خلال الهجوم الإيراني في أبريل/نيسان 2024، الذي شهد إطلاق 300 صاروخ وطائرة مُسيَّرة، حيث فشلت الدفاعات الإسرائيلية منفردة في التصدي، وتدخلت دولٌ مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن لصد الهجوم.
لا تقتصر التبعية على المساعدات الطارئة، بل تمتد إلى البنية التحتية الدفاعية، فجميع طبقات الدفاع الجوي الإسرائيلية مثل القبة الحديدية ومقلاع داوود وآرو-3، تُنتَج بالشراكة مع واشنطن، التي تهيمن على التمويل والتكنولوجيا.
وحتى المحاولات السابقة للاستقلال في التصنيع العسكري، مثل إنتاج مقاتلات "كفير" محلية الصنع (التي خرجت من الخدمة عام 1996) انتهت بالفشل، وتعتمد إسرائيل منذئذ على المقاتلات الأميركية بالكامل، بينما حوَّلت مواردها إلى الصناعات التكنولوجية (مثل المستشعرات والطائرات المُسيَّرة)، التي تشكل 70% من صادراتها العسكرية.
بالنسبة لإيران، تبدو خطط زامير لمواجهتها، والتي وردت في دراسته بعنوان "الاستراتيجية الإقليمية لمواجهة إيران.. نهج شامل طويل الأمد"، أقرب إلى التصوُّرات السياسية الفضفاضة منها إلى استراتيجية قابلة للتنفيذ. ففكرة تفكيك محور المقاومة عبر الضغط على سوريا أو دعم النعرات الطائفية في العراق ولبنان، تتجاهل تحالفات إيران الراسخة وتعقيدات المشهد الإقليمي، وحتى مع سقوط نظام الأسد فإن محور المقاومة أبعد ما يكون عن التفكُّك الكامل.
والأمر الأكثر إشكالية هو افتراض زامير أن واشنطن وحلفاءها سيتحملون العبء الأكبر في تنفيذ هذه المهام، وهو أمر مشكوك فيه، بينما تُظهر الوقائع -مثل فشل إسرائيل في عزل حزب الله أو إضعاف الحوثيين- أن القوة الإسرائيلية وحدها غير كافية دون دعم دولي مباشر.
هذه الفجوة بين تصورات زامير وبين الواقع لا تعكس مجرد أخطاء تكتيكية، بل تكشف عن أزمة في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي الذي يبالغ في تقدير إمكانياته الذاتية، ويُهمل حسابات التكلفة والزمن. فالجدار التكنولوجي والاستقلال العسكري ومواجهة إيران كانت جميعها مشاريعَ مُكلفة تحوَّلت إلى معضلات بفعل التحديات الميدانية والاعتماد المفرط على القوة الأميركية.
يُقدِّم إيال زامير نفسه بوصفه قائدا مُختلفا وقادرا على تحويل مسار الحرب في غزة، عبر مزج القوة البرية الكاسحة بمنظورٍ استراتيجي طموح. ويعِدُ زامير باجتياح بري يُنهي حركة حماس تماما، ويعيد القطاع للسيادة الإسرائيلية إلى الأبد.
ولكن وعوده تتعارض مع واقعين: الأول، افتقاده الخبرة في قيادة حروب معقدة داخل بيئة عمرانية مكتظة، حيث تشكَّلت مسيرته في سلاح المدرعات القائم على مسح الأرض بدلا من المواجهات المباشرة. والثاني، الإرث الثقيل لإخفاقاته السابقة، مثل فشل الجدار التكنولوجي الذي انهار خلال ساعات يوم 7 أكتوبر.
لا تنفصل رؤية زامير الحالية عن نهجه السابق في التعامل مع غزة، حين قاد المنطقة الجنوبية أثناء مسيرات العودة عام 2018، حيث ربط تحسين الأوضاع الإنسانية باستعادة الجنود المختطفين، مُكرِّسا سياسة العقاب الجماعي. اليوم، يُعيد زامير إنتاج النهج ذاته عبر حصارٍ خانق وتصعيد عسكري يُفاقم الكارثة الإنسانية، دون تحقيق اختراقات ميدانية ملموسة.
أما التحدي الأكبر فيتمثل في أزمة قوات الاحتياط، التي كشفت تقارير صحيفة هآرتس عن تراجع تجاوبها بنسبة 50%، ما يعيق تنفيذ أي اجتياح بري واسع. وليست هذه الأزمة لوجستية فحسب، بل تعكس استنزافا اجتماعيا لشرعية الحرب، خاصة بعد شهور عديدة من الخسائر البشرية والمادية التي لم تُترجم إلى انتصارات.
هل تمتلك إسرائيل تحت قيادة زامير القدرة على تحويل الخطاب اليميني والعدواني إلى واقع ملموس واستراتيجية أمنية فعالة؟ يشير التاريخ القريب إلى أن غزة كانت دائما مقبرة للأساطير العسكرية الإسرائيلية، من فشل "الرصاص المصبوب" عام 2008، إلى تعثُّر "الجدار الذكي" عام 2023.
وحتى الآن، لا تُقدِّم استراتيجية زامير سوى تكرار للمسار ذاته: الاعتماد على التفوق العسكري والتجييش الضخم للقوات البرية، مع تجاهل تعقيدات الميدان والتداعيات الجيوسياسية لمفاقمة الكارثة الإنسانية في القطاع، وهو مسار محفوف بالمخاطر، لا سيَّما بالنظر إلى طبيعة حروب المدن المعقدة التي تواجهها إسرائيل في غزة، والتضامن العالمي الواسع، وهي كلها عقبات سياسية لم يضعها زامير في حساباته العسكرية الصلبة.
قد تكون غزة المحطة الأخيرة التي تُكشف فيها الهوة بين تصورات زامير وإمكانيات إسرائيل، ومن ثم تتحول "الحرب الوجودية" إلى مجرد فصل جديد من فصول الانهيار الاستراتيجي الذي بدأ مع هجوم 7 أكتوبر.
أما زامير فسيُدرك مع الوقت أن غزة ليست ساحة لإثبات الذات أو لإحياء أفكاره القديمة عن الجيش المُقاتل الكلاسيكي، بل مرآة تعكس أزمات المشروع السياسي والعسكري الإسرائيلي، خاصة في طوره اليميني المتطرف الحالي.