رغم عقود من النضال النسوي وسلسلة من الإصلاحات القانونية والمؤسساتية حول العام، يبدو أن المساواة بين الرجال والنساء في سوق العمل لا تزال بعيدة المنال.
وقد أظهر تقرير "اللقطة حول المساواة بين الجنسين 2025" الصادر هذا الشهر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة أن الفقر المدقع بين النساء والفتيات ما زال يراوح مكانه منذ عام 2020 عند نحو 10 بالمئة، ما يعني أنّ "أكثر من 351 مليون امرأة وفتاة قد يعشن في الفقر المدقع بحلول عام 2030 إذا استمرّت الاتجاهات الحالية".
ويشير التقرير إلى أن التحديات لا تتوقف عند الفقر. فالنساء ما زلن يقمن بأعمال رعاية غير مدفوعة تعادل ضعفي ونصف ما يقوم به الرجال يومياً، فيما يشير التقرير إلى أنّ القطاعات "المؤنثة" مثل التعليم والصحة تظل أقل أجراً من غيرها.
وعلى صعيد المناصب، لا تتجاوز نسبة النساء في المواقع الإدارية حول العالم 30 بالمئة، وبالوتيرة الحالية "ستستغرق المساواة قرناً كاملاً"، بحسب التقرير.
كذلك يبرز التقرير فجوات مقلقة: أكثر من واحدة من كل ثماني نساء تعرّضت للعنف الجسدي أو الجنسي على يد شريك خلال العام الماضي، وما يقارب واحدة من كل خمس شابات تزوّجن قبل سن الثامنة عشرة. أما في المجال الرقمي، فما زالت النساء أقل وصولاً إلى الإنترنت (65 مقابل 70 بالمئة للرجال)، فيما تواجه وظائفهن خطراً أكبر بالاستبدال عبر الذكاء الاصطناعي.
من أبرز ما ورد في التقرير أن نحو 28 بالمئة من وظائف النساء عالمياً مهددة بالاستبدال بالذكاء الاصطناعي، مقابل 21 بالمئة من وظائف الرجال.
يسلّط التقرير الضوء على الفجوات المزمنة في قطاع التكنولوجيا: فالنساء لا يشكّلن سوى نحو 29 بالمئة من القوى العاملة العالمية في هذا المجال، ولا يتجاوز حضورهن 14 بالمئة في المناصب القيادية التقنية. ومع بقاء خمس سنوات فقط على الموعد المحدد لتحقيق أجندة التنمية المستدامة 2030، يصف التقرير عام 2025 بأنه محطة مفصلية لتتبّع التقدّم نحو المساواة بين الجنسين عبر أهداف التنمية المستدامة.
كما يحذّر من أنّ النزاعات المسلحة وتغير المناخ وانعدام الأمن الغذائي تضرب النساء والفتيات بشكل غير متكافئ، إذ عاشت 676 مليون امرأة عام 2024 قرب مناطق نزاع دموي، وهو أعلى رقم منذ تسعينيات القرن الماضي.
ورغم هذه التحديات، يبرز التقرير فرصاً للتحوّل: فالاستثمار في الدمج الرقمي والرعاية الاجتماعية وتعزيز القيادة النسائية يمكن أن يدر مكاسب اقتصادية بمليارات الدولارات ويغيّر المعادلة لصالح المساواة.
رغم التقدّم التشريعي والاجتماعي، ما زالت فجوة المساواة بين الجنسين قائمة بسبب عوامل هيكلية متشابكة. فالنساء يتركزن في قطاعات منخفضة الأجر ينظر إليها تاريخياً كـ"أعمال نسائية"، بينما تعيقهن "الأرضية اللاصقة" عن الترقّي، ويواجهن "سقفاً زجاجياً" يحول دون وصولهن إلى مواقع القرار.
و"الأرضية اللاصقة" هي استعارة تشير إلى الصعوبات التي تبقي النساء عالقات في أدنى السلّم المهني، في وظائف منخفضة الأجر أو محدودة الفرص، وتجعل من الصعب عليهن الصعود.
تعكس هذه العبارة القيود الاجتماعية (مثل أدوار الرعاية المنزلية)، أو نقص الدعم المؤسسي (إجازات أمومة/ أبوة غير متوازنة، غياب حضانات، إلخ). نرى ذلك على سبيل المثال في نموذج امرأة عاملة في قطاع الرعاية أو التعليم الابتدائي تظلّ في نفس الموقع الوظيفي سنوات طويلة، لأن الهيكل المهني لا يوفّر لها فرص تدريب أو ترقية حقيقية.
أما "السقف الزجاجي" فهي استعارة تُستخدم لوصف الحواجز غير المرئية التي تمنع النساء (وأحياناً مجموعات أخرى) من الوصول إلى المناصب العليا أو مواقع القيادة، حتى لو كانت لديهن الكفاءة والخبرة. فعلى سبيل المثال، قد تُوظَّف النساء بكثرة في شركات معيّنة، لكن نسبة المديرات التنفيذيات أو أعضاء مجالس الإدارة تبقى ضئيلة جداً.
كذلك، من أسباب استمرار هذه الفجوة أيضاً، هو أن الأمومة كثيراً ما تتحوّل إلى "عقوبة"، إذ تُعتبر النساء أقل التزاماً بعد الإنجاب، على عكس الرجال الذين غالباً ما يُكافَأون بما يُسمّى "مكافأة الأبوة". يضاف إلى ذلك العبء غير المرئي للأعمال المنزلية والرعائية غير المدفوعة، الذي يحدّ من فرص النساء في التفرغ المهني. هذه العوامل ليست حوادث معزولة، بل تعبير عن نظام اقتصادي يقوم على استغلال عمل النساء المدفوع والمنزلي معاً، وهو ما يجعل المساواة الحقيقية في الأجور والمناصب هدفاً بعيد المنال دون إصلاحات جذرية.
في حين أن النساء عملن تاريخياً في أعمال كثيرة مرتبطة بالزراعة والرعاية، إلا أن مشاركة النساء في سوق العمل بدأت بشكل واسع مع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، حيث انخرطن في المصانع كأيدٍ عاملة رخيصة يتقاضين أجوراً أدنى بكثير من أجور الرجال.
وخلال الحربين العالميتين، أصبحت النساء العمود الفقري للاقتصادات الوطنية، إذ تولّين وظائف الرجال الغائبين عن الجبهات، من مصانع السلاح إلى قطاعات النقل والخدمات.
لكن مع عودة الجنود، جرى دفع النساء مجدداً إلى الهامش أو إلى المهن "المؤنثة" كالتمريض والتعليم والعمل الإداري.
في خمسينيات القرن الماضي بدأت مشاركة النساء في سوق العمل تزداد بشكل ملحوظ، إذ أظهرت الإحصاءات أنّ أكثر من 30 بالمئة من النساء فوق سن السادسة عشرة كنّ يعملن بحلول عام 1950، وهو ارتفاع لافت مقارنة بالعقود السابقة. هذا التحوّل جاء نتيجة عوامل داخلية، مثل رغبة الشابات في الاستقلال المالي وتحقيق طموحاتهن الخاصة، إلى جانب ظروف اقتصادية خارجية فرضت نفسها آنذاك.
ومع ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، استمر هذا الصعود حتى وصلت نسبة مشاركة النساء في سوق العمل إلى نحو 60 بالمئة عام 1999. ومع ذلك، ظلّت الأعراف الاجتماعية ترسّخ فكرة أنّ مسؤولية المنزل والرعاية هي أولاً وأخيراً شأن نسائي، ما جعل النساء يواجهن عبئاً مزدوجاً بين العمل المأجور والعمل المنزلي غير المدفوع.
خلال العقود الأخيرة، سعت النساء بقوة إلى الوصول لمناصب قيادية وتبوّؤ مواقع صنع القرار، لكن التقدّم ظل محفوفاً بعوائق، من بينها النظرة إليهن كعاملات أقل التزاماً من الرجال، خصوصاً عند الحاجة إلى ترتيبات عمل مرنة أو إجازات لرعاية الأطفال.
ثم جاءت جائحة كورونا لتكشف هشاشة هذا التقدّم، فقد انعكست سلباً على النساء بشكل أكبر، خصوصاً في قطاع الخدمات، وأدت إلى خسائر وظيفية وعدم استقرار اقتصادي.
وفيما فتح العمل عن بُعد المجال لمشاركة أوسع من بعض الرجال في الأعمال المنزلية، لكن النساء بقين يتحملن العبء الأكبر من رعاية الأطفال غير المدفوعة.
وبرغم أن الجائحة أعادت طرح فكرة إعادة توزيع أكثر عدلاً للمهام المنزلية، فإن الأدوار الجندرية الراسخة لا تزال عائقاً أساسياً أمام المساواة الفعلية.