تساقطت علينا في حي الدرج أوراق قيل لنا إنها مناشير مكتوبة باللغة العربية موقعة من رئيس أركان جيش الاحتلال، ويطلب فيها من سكان الحي إخلاء بيوتهم والخروج منها إلى أي مكان باتجاه الجنوب حرصا على سلامتهم.
قلت لابنة عمي وفي يدها ورقة يقال لها منشور:
يا سلام! يقتلوننا من جهة ويحرصون على سلامتنا من جهة أخرى.
قالت لبنى وهي جالسة على طرف الشباك المفتوح:
هل سمعت بقصة الذئب الذي ألقى بخطبة في أكل اللحوم وأن يصبح نباتيا مثل الخراف؟
قلت: لا، لم أسمع.. لا بد أنها حكاية طريفة، وهل صدّقت الخراف؟
قالت لبنى: نعم صدّقته الخراف الحمقاء الساذجة وصفقت له.
قلت: وبعدها ماذا حصل؟
قالت لبنى: شعر الذئب بالسعادة وهو يسمع تصفيق الخراف بيديها ورجليها وهي منبطحة على الأرض باطمئنان، ثم نزل عن منصة الخطابة، وصافح كبير الخراف وهو يحلم بوجبة طازجة من لحم الخراف المخدوعة.
وقلت معلقا: وهكذا انطلت الخدعة على الخراف المسكينة فغدر الذئب بعدها، وبوجبة يومية من لحم الخراف ظفر.
دخل عمي غرفة ابنته لبنى وعلامة الغضب والحيرة على وجهه وقال لنا باستغراب ودهشة: تتحدثان بهدوء وبرودة أعصاب والناس يخلون بيوتهم لينجوا من قصف لعين قادم.
قالت ابنة عمي لبنى لأبيها وهي تنزل عن الشباك نخلي بيتنا بسهولة دون أن نعرف إلى أين نذهب.
قالت ساخرة: نذهب إلى لا مكان.
قال عمي: إلى جنوب القطاع.. إلى مكان أكثر أمنا.. سأتصل بصديقي سائق سيارة النقل الكبيرة ليحضر.
كان السائق مشغولا بإخلاء بيته ونقل عائلته وعائلة جاره الذي استشهد وهو يقاوم المحتلين الصهاينة.
خرج عمي مرتبكا وحائرا لا يدري ماذا يفعل، ولم يلبث أن عاد وهو يطمئننا: حصلت على عربة يجرها حصان وبأجرة معقولة.
الوقت يمر بسرعة، علينا أن نعد كل شيء يلزمنا قبل أن تحضر العربة.
كأنه حلم، وجدنا أنفسنا نمشي وراء العربة في شارع الرشيد المحاذي لبحر غزة، لا أستطيع أن أصف الناس الماشين جماعات وفرادى وهم لا يعرفون إلى أين يذهبون، تذكرت معلمة التربية الإسلامية وهي تتحدث لنا في درس الدين عن يوم القيامة، "يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى".
كنا نمشي في الشارع الذي يمتد بنا إلى منطقة أسمع بها لأول مرة منطقة المواصي التي زعم جيش المحتلين القتلة أنها آمنة، وأنها مخصصة للنازحين من الشمال.
حين وصلنا بعد تعب شديد وعذاب أشد رأيت مجموعة من الخيام البيضاء منصوبة على الرمال، لا أدري لماذا رأيتها تميل إلى اللون الأسود، وحين تخيلت أن العدو الذي اعتاد على الغدر بنا سيقصفنا ونحن في الخيام رأيتها تميل إلى اللون الأحمر.
فوجئنا بصديق لعمي جلال يعمل -كما عرفنا فيما بعد- مع وكالة الأونروا لإغاثة اللاجئين ينادي عليه: جلال، صديقي جلال، تعال.
سارع عمي إليه فقال له: توقعت أن تجيئوا إلى هنا، وكنت أعرف أن عائلة أخيك معك فأعددت لكم خيمتين، تعال معي.
أخذنا ننقل الأمتعة والأغراض من العربة الكبيرة إلى داخل الخيمتين، وما إن انتهينا ونحن نشعر بتعب أضيف إلى تعب دفع عمي إلى سائق العربة أجرته، فانطلق الشاب صاحب العربة وهو يحث حصانه إلى المشي بسرعة لعله يجد عائلة نازحة تحتاج إلى نقل ومساعدة.
احتضنت أمي أخي حازم وهي تواسيه "تعبت يا حبيبي، كلنا تعبنا، لكن تعب الرّجْلين يهون عن تعب البال، حسبي الله ونعم الوكيل".
مد أخي الصغير حازم يده ليمسح دمعة تسللت إلى خد أمي وهو يطيّب خاطرها بكلامه البريء "لا تحزني يا ماما ولا تخافي، بابا حكى لي إذا اشتد القصف علينا يا حازم وأصر الأعداء على هدم بيوتنا وقتلنا سيأتي العرب حتى ينقذونا، العرب يا حازم أهلنا وأقاربنا ولا يمكن ينسونا يا بابا..".
ضمت أمي حازم الصغير إلى صدرها وهي تقول له: إن شاء الله يا حازم كلام بابا يتحقق حتى ينقذونا يا حبيب بابا وماما.. الله كريم يا ماما.
مرت أيام النزوح بسرعة عجيبة مع أني كنت أتوقع أن تكون بطيئة المرور ثقيلة الساعات "ياه.. صار لنا هنا شهرين ودخلنا في الثالث والحرب بدلا من تهدأ حولنا تشتد وتصبح أكثر وحشية وخطورة، بدأت المواد الغذائية التي حملناها معنا تقل حتى إن العلب الفارغة أصبحت أكثر بكثير من العلب المليئة، لم نعد نملك في الخيمة التي أخذت تشفق علينا سوى كمية من الطحين تكفي لخبزة واحدة على الصاج والنار".
والأرز بقي منه بقية لا تكفي لطبخة تشبعنا، أما السكّر فقد نفد تماما ورأيت أمي البارحة تحمل كيسه الفارغ وتلقي به على تلة من النفايات المتراكمة أمام خيمتنا.
كل هذا يهون عن المياه العادمة ذات الرائحة الكريهة التي أخذت تشكل بركة من الماء الملوث الذي أصبحنا نخاف منه على صحة أجسامنا المهددة بالقذائف والرصاص الأعمى الذي لا يميز بين صغير وكبير.
أشعلت أمي كومة صغيرة من الحطب في موقد خارج الخيمة صنعته من 3 أحجار متقابلة، ثم وضعت الصاج على نار الموقد وأخذت تخبز العجنة الأخيرة من الطحين الذي تبقى لنا في الكيس.
جلسنا أنا وأخي أمام الموقد وأمي تقول: ابتعدوا عن النار، وكأننا لم نسمع ونحن نقترب أكثر من الموقد لا لنستدفئ وإنما للهفتنا في انتظار أول رغيف نتحدى به الجوع.
فرغت أمي من إعداد الخبز لنا، أطفأت نار الموقد بالماء، واصطحبتنا إلى داخل الخيمة وهي تبشرنا بوجبة لذيذة من الزيت والزعتر والخبز الساخن أخذنا نغمس الخبز بالزيت والزعتر متلذذين بكل لقمة وكأننا نذوقها لأول مرة.
بينما كنا منهمكين في الأكل سمعنا في الخيمة المجاورة أصوات صغار يتصايحون، تخلت أمي عن اللقمة التي كانت بيدها وذهبت تستطلع الأمر، ولم تلبث أن رجعت لتقول لنا: يا حرام، يصيحون من ألم الجوع وأمهم لا تدري ماذا تفعل، ما رأيكم أن تتنازلوا عن رغيف واحد سأقسّمه عليهم، إنهم ثلاثة.
حمل أخي حازم الرغيف، وقال لأمي: أنا سأقدم الرغيف لهم وهم يقسمونه بينهم.. أنا أعرفهم يا أمي وألعب معهم دائما.
قبّلت أمي صغيرها وهو يحمل الرغيف وهي تقول: عظيم وكريم أنت يا حازم، النبي عليه الصلاة والسلام وصانا على سابع جار.
قلت وأخي حازم يخرج بالرغيف: وكيف إن كان هذا الجار في خيمة للنازحين الفارين من الجوع والموت؟!
وإن من أقل الواجب الوطني والقومي والإنساني على كل صاحب قلم حر أن يرسم صورة دامية على الأقل لأبشع وأقذر حرب إبادة وحشية تجري في قطاع غزة صدمت التاريخ المعاصر وأذهلت البشريّة جمعاء.
وعلى كل صاحب قلم شريف وحر أن يرسم بقلمه صورة حية وناطقة مثل هذه الصورة المؤلمة والصارخة في وجه الموت المبرمج والجوع الممنهج والتهجير المتكرر من مكان غير آمن إلى مكان غير آمن، وربما يكون أشد خطورة، ولا بد لهذه الصورة المؤلمة التي سيتم رسمها أن تكون فتاة من جباليا أو من حي الزيتون قد رسمتها ودونتها في مفكرتها الثقافية أو في دفتر مدرسي قصفت مدرسته ولم يحترق وبقيت تضمه إلى صدرها وتنزح به من بيت مهدم إلى مخيم.
ما رأي حملة الأقلام العرب وغير العرب في هذه الدعوة المفتوحة للرسم بالكلمات مئات الصور الدامية والمؤثرة لعلنا نقيم معرضا دوليا للوحات أدبية وصحفية ندعو لزيارته سكان الكرة الأرضية ليشاهدوا بشاعة وقذارة هذه الحرب التي ألقت بأطنان قنابلها على رؤوس أهلنا في قطاع غزة المنكوب؟!