آخر الأخبار

"اليوم صرتُ أبي" للأردني محمد العزام.. حين تتحوّل الأبوة إلى قصيدة

شارك

في ديوانه الجديد "اليوم صرتُ أبي"، يقدّم الشاعر الأردني محمد العزام نصوصا مشبعة بالتحوّل الوجودي، حيث تمتزج الذاكرة الشخصية مع الهمّ الوجودي العام، وتتماهى الأبوة مع الكتابة، فيما يشبه سيرة شعرية للأبناء والمكان معا.

ويمثل هذا الديوان، الصادر مؤخرا عن دار "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان، تجربة شعرية ناضجة تتوزع بين الشأنين الشخصي والعام، وبين التأمل الفلسفي والحس العاطفي. وتجمع النصوص بين بنية القصيدة الحديثة (التفعيلة/النثر) مع مسحة وجدانية واضحة، كما أنها تشي بتجربة شاعر واع بميراث الشعر العربي الكلاسيكي، ومشدود في الوقت نفسه إلى قضايا الحاضر.

العنوان عتبة مركزية

اختار العزام لديوانه عنوانا يختصر الرؤية كلها "اليوم صرتُ أبي". وليس الأمر هنا مجرّد اعتراف بالانتقال من موقع الابن إلى موقع الأب، بل هو إعلان عن وعي جديد بالزمن والمسؤولية. يقول في قصيدته التي يحمل الديوان عنوانها:

لم يختلف شيءٌ

ولكن كبرنا فجأة.

إذ لم نعد نقوى على لغة الحماقة

وابتسامتها

ولي ولد أعلمه القراءة دائما

وتجنّب الدخان

مثل أبي

….

كل شيء قلته وفعلته

الآن أدرك أنني كنت أركض حول صوتك دائما

واليوم صرتُ أبي.

بهذه البساطة المؤلمة يضعنا الشاعر أمام لحظة إدراك، وهي أن الدور الذي كان يخصّ الأب قد صار على عاتق الابن، وأن البيت لم يعد صدى لصوت الأب بل صار يتجسّد في صوت الشاعر نفسه. إن هذا الديوان الشعري يحمل في طياته بنية عميقة ومتشابكة، تنسج من خلالها رؤية الشاعر للعالم. ويمكن النظر إلى هذه البنية كمجموعة من الدوائر المترابطة التي تتسع لتشمل جوانب مختلفة من التجربة الإنسانية، بدءا من الذات وصولا إلى الوطن.

رحلة الشاعر بين الذات والوطن

ينطلق الديوان في رحلته الشعرية من الدائرة الذاتية-الأسرية، حيث يتخذ عنوانه "اليوم صرتُ أبي" نقطة تحول مفصلية. إنه ليس مجرد إعلان عن هوية جديدة، بل هو إقرار بمسؤولية وجودية وانتقال للأدوار بين جيلين.

في قصائد مثل "البيت صوتك يا أبي" و"اليوم صرتُ أبي"، نرى الشاعر وهو يتصارع مع ذكريات الأب، ليجد نفسه في النهاية يحمل عبء هذا الإرث الثقيل. هذه العلاقة مع الماضي تعكس وعيا عميقا بمرور الزمن وتجربة العمر، وتمنح الديوان بعدا تأمليا وشخصيا للغاية.

إعلان

بعد ذلك، تتسع هذه الدائرة لتلامس الدائرة العاطفية-الغزلية، حيث يستعيد الشاعر تقاليد الحب والغزل لكن بلمسة حداثية. في مقاطع مثل "وصايا الماء" و"تمشين في الموال" و"في الأربعين" و"مجاز أقل"، يوظف الشاعر صورا شعرية مبتكرة ومجازات مكثفة، لكنه في الوقت نفسه يُبدي رغبة واضحة في الخروج من أسر هذه المجازات. وهذا التوتر بين الاحتفاء بالحب والرغبة في تفكيك لغته يمنح قصائده العاطفية عمقا فريدا. عبارته "أحب الكلام المباشر.. مجاز أقل" تكشف عن سعي الشاعر للوصول إلى جوهر التجربة الإنسانية دون زخرفة مفرطة، وهو ما يجعل هذه القصائد صادقة وقوية.

مصدر الصورة الشاعر الأردني محمد العزام حصل على عدة جوائز أبرزها جائزة شاعر عكاظ 2016 (الجزيرة)

أما الدائرة الأوسع والأكثر شمولا في الديوان، فهي الدائرة الوطنية-الوجودية. هنا ينخرط الشاعر بشكل مباشر في قضايا أمته، ويتحول شعره إلى مرآة تعكس آلام الواقع المعاصر. في قصائد مثل "غزّة"، و"الشعر مثل الحرب" و"الشهداء" و"غابة من يتامى" و"لأنها الشام"، تتكثف الصور المأساوية والدموية، ويتحول الشعر إلى شكل من أشكال المقاومة والرثاء الجماعي. إن استخدام عبارات مثل "دمٌ يا إلهي" و"غابة من يتامى" لا يترك مجالا للشك في المأساة التي يصفها، مما يمنح الديوان قوة مؤثرة وربطا وثيقا بالواقع العربي الراهن. هذا البعد يثبت أن الديوان لا يكتفي بالتأمل في الذات، بل يتجاوزها ليصبح صوتا يعبر عن هموم جيل بأكمله.

يمكن القول إن هذا الديوان الشعري من ناحية الموضوع يمثل نسيجا فنيا متكاملا، تبدأ خيوطه من تجربة الشاعر الذاتية وتنتهي لتغطي أوسع القضايا الوطنية والإنسانية. وهذا التدرج في الدوائر الموضوعية يمنح الديوان غنى وعمقا، ويجعل منه شهادة شعرية على رحلة الإنسان في مواجهة الزمن والحب والوطن.

الشعر مثل الحرب

القسم الثالث والأخير من الديوان يحمل عنوان "الشعر مثل الحرب"، وهو الجزء الذي تغلب عليه صفة القضايا الوطنية والاحساس القومي، فنجد فيها نقاشا لموضوع غزة والشام والشهداء على سبيل المثال، هذه القصائد الوطنية تُشكل رؤية احتجاجية–وجودية، تعكس التمزق العربي الراهن، وتضع الشعر في مواجهة الدم والخراب.

ويتخذ الموضوع الوطني هنا موقعا مركزيا، حيث يتقاطع مع الهمّ الشخصي ليشكّل نسيجا واحدا. فالشاعر لا يكتب عن الوطن بوصفه جغرافيا مجردة، بل كجسد نازف وصوت يختلط بأنفاسه. في قصيدة الشهداء مثلا، يرسم صورة مأساوية مكثّفة: «دمٌ يا إلهي… دمٌ في الممر / دمٌ وأم تهدهد نصف رضيع»، حيث إن الشاعر هنا يجعل القارئ شريكا في صدمة المشهد. أما في "غابة من يتامى" فيحوّل الفقد الفردي إلى صورة لجيل كامل يعيش اليُتم الجماعي: «وأنا الآن غابة من يتامى / وخفيفٌ كقبضة من غبار».

وتبلغ الرؤية ذروتها في قصيدة "الشعر مثل الحرب"، حين يعلن الشاعر أن الكلمة نفسها تتحوّل إلى جبهة: «الشعر مثل الحرب / كل قصيدة سوف تنجب من قلب أخرى». وهكذا، يتجاوز العزام الغنائية التقليدية إلى شعر احتجاجي وجودي، يرى في اللغة سلاحا وحيدا لمواجهة الدم والخراب، ويعيد للأبوة التي يتحدث عنها في الديوان بعدا أوسع، إنها أبوة جماعية لوطن ممزق يحتاج إلى من يرث صوته ويحمل وجعه.

الخصائص الأسلوبية

لا يكتفي هذا الديوان ببنية موضوعية عميقة، بل يمتلك أيضا خصائص أسلوبية مميزة تُشكل هويته الفنية الخاصة، حيث تتضافر هذه الخصائص لتمنح نصوصه طابعًا فريدًا يجمع بين التراث والحداثة، وبين الذاتي والجمعي.

إعلان

ويعتمد الشاعر على لغة شعرية غنية ومتنوعة، فهو يمزج بمهارة بين اللغة الكلاسيكية ذات النَفَس القرآني وبين اللغة اليومية البسيطة. هذا المزيج يخلق نصوصًا تتسم بالعمق والروحانية، وفي الوقت نفسه تبدو قريبة ومألوفة. ويُلاحظ هذا الطابع الروحي من خلال التناص الديني المتكرر، مثل "آية الكرسي"، و"السبع المثاني"، و"دين الحب" وفق فلسفة المتصوفة، مما يضفي على الديوان بعدا صوفيا يعكس رؤية الشاعر للوجود.

كما أن المجاز والصورة يلعبان دورا جوهريا في نصوص الديوان. فالشاعر يوظف صورًا كونية وطبيعية بشكل مكثف، مثل الماء، والنهر، والبحر، والصحراء، والزيتون. هذه الصور ليست مجرد زخارف بلاغية، بل هي أدوات رمزية عميقة تُستخدم لتثبيت الذاكرة وتعزيز الإحساس بالانتماء، وتعكس نزعة صوفية-وجودية. الماء، مثلا، قد يرمز إلى الحياة أو التطهير، بينما الزيتون قد يشير إلى الصمود والهوية العربية الفلسطينية.

الموسيقى الداخلية وتقنيات التعبير

على الصعيد الإيقاعي، يتنقل الديوان ببراعة بين الموسيقى الداخلية المتنوعة. فهو يستفيد من روح الأوزان الكلاسيكية، وكذلك من إيقاعات شعر التفعيلة الواضحة أحيانا، وفي أحيان أخرى يقترب من قصيدة النثر، مما يمنحه مرونة إيقاعية. في نصوص مثل " تمشين في الموال" أو "وصايا الماء"، يظهر هذا الانسجام الإيقاعي المتوتر الذي يحاكي الغناء أو الموال، مما يجعل النص ينساب بإيقاع خاص يتماشى مع حالته الشعورية.

إلى جانب ذلك، يُعد التكرار أحد أبرز الخصائص الأسلوبية في هذا الديوان. فالشاعر يستخدمه كثيرا لتوكيد المعنى، خاصة في التعبير عن الوجع الجمعي. على سبيل المثال، عبارة "دمٌ يا إلهي… دمٌ يا إلهي" في قصيدة "غزّة" تُكرر لتعميق الأثر العاطفي وتضخيم الإحساس بمأساة الإبادة في القطاع الفلسطيني. القصيدة بأكملها قائمة على التكرار الطقسي لعبارة "دمٌ يا إلهي"، وهو ما يمنحها قوة إنشادية وجماعية. إنها نصّ يُحوّل المشهد الدموي إلى ترنيمة احتجاج وصلاة في آن واحد. إن هذا التكرار يقرّب النصوص من الطقس الجماعي، ويجعلها صدى لآلام مشتركة، مما يعزز من قوة الديوان وتأثيره.

دمٌ يا إلهي

دمٌ في الممر

دمٌ فوق تلك الأسرّة

فوق دمى نُثِرَت حول هذي الصور

دمٌ يا إلهي

وأمٌّ تهدهد نصف رضيع

تفتش عن فمه

لم يذق غير صوت القنابل

منذ مجازر هذا الصبا

ومنذ رمت غارة إخوة قبله

كي يطيروا حطاما على مدِّ هذا البصر

دمٌ يا إلهي

دمٌ فوق مصحفك انثال قد مزّقوه

وجاسوا خلال الديار

فأين المفر وكل الدروب تتر؟

القوة والتحديات النقدية

تكمن قوة الديوان في قدرته على تحقيق التعدد الموضوعي، حيث ينجح في المزج بين العوالم الشخصية والعامة. فهو ينتقل بسلاسة من تجارب الشاعر الخاصة مع الأب والأبناء والحب، إلى قضايا الوطن والحرب والشهداء. هذا التنوع يمنحه غنى وعمقا، ويجعله مرآة تعكس أبعاد التجربة الإنسانية كافة، من الذاتي إلى الوجودي.

كما يبرز الديوان بفضل التناص الثقافي والديني الذي يُعزز نصوصه. إضافة إلى ذلك، يُلاحظ الصدق الشعوري الذي يتخلل نصوص الديوان. وأخيرا، يُظهر الديوان قدرة الشاعر على تجريب الشكل. فهو يمزج بين أشكال شعرية مختلفة مثل شعر التفعيلة، والنثر، والموال، مما يثري الديوان موسيقيا ويُضفي عليه مرونة إيقاعية غير تقليدية. هذا التجريب يُعد نقطة إيجابية تُظهر حيوية الشاعر وتطلعه إلى تجاوز القوالب الجامدة.

رغم قوته وتميزه، إلا أن الديوان يواجه بعض التحديات النقدية. أولها هو الإفراط في التراكم الصوري فبعض النصوص تُغرق القارئ في كثافة المجازات بحيث يُصبح المعنى غامضا. وثانيا، يُلاحظ تفاوت النبرة بين القصائد المختلفة حيث هناك مسافة أسلوبية واسعة بين القصائد الغزلية الهادئة والقصائد الوطنية الصاخبة، مما قد يُشعر القارئ أحيانا بعدم وجود وحدة في الصوت الشعري للديوان. هذا التباين قد يُشتت الانتباه. أما الملاحظة الأخيرة، فهي المباشرة الخطابية في بعض المقاطع.

خاتمة: التحوّل الوجودي

"اليوم صرتُ أبي" ليس ديوانا عن الأبوة فقط، بل عن التحوّل الوجودي الذي يجعل من كل إنسان حاملا لذاكرة غيره ومسؤولا عن استمرارية الحياة. قصائد العزام شهادة على زمن عربي متصدّع، ومحاولة للعثور على بيتٍ آخر: بيت اللغة.

إعلان

هذا العمل يندرج ضمن تيار الشعر الأردني والعربي الذي يحاول التوفيق بين الإرث (الصوفي والوطني) والتجريب الحداثي. ويمكن مقارنته بتجارب معاصرة تمزج الغنائية بالاحتجاج. ويضيف العزام صوتا شخصيا مميزا عبر ثيمة الأبوة والتحول الوجودي. ويمكن القول إن هذا الديوان هو عمل شعري متماسك، يجمع بين الوجد الشخصي والهم الجمعي، وبين الغنائية والتجريب.

يذكر أن هذه المجموعة الشعرية هي الرابعة للشاعر محمد العزّام بعد "رقصة للنخيل" عن دار أزمنة 2002، و"أرى في الماء غير الماء" عن أكاديمية الشعر بأبوظبي 2015، و"لا تنتظر أحدا" عن دار فضاءات للنشر 2018. وقد شارك العزام في العديد من الفعاليات الشعرية العربية وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة شاعر عكاظ 2016.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار