ينتمي محمد جبعيتي (1993) إلى جيل جديد من الكتاب الفلسطينيين، الجيل الذي يحمل على عاتقه مهمة حمل القضية الفلسطينية ويكتب عن تفاصيل حياة الفلسطينيين بكل تناقضاتها اليومية، ليس كترف، وإنما كضرورة. ساعيا بذلك لفتح نافذة للحلم ومقاومة النسيان، ولمنح صوت لمن أسكتهم الموت.
وقد عُرف جبعيتي بكتاباته التي تمزج الحس الإنساني بالخيال الجامح، وتستند إلى وعي سياسي وثقافي متين، وذلك بعد عدة إصدارات روائية أبرزها "المهزلة"، "غاسل صحون يقرأ شوبنهاور"، "رجل واحد لأكثر من موت"، "عالم 9″ و"الطاهي الذي التهم قلبه".
"لا بريد إلى غزة".. عنوان روايته الصادرة حديثا عن دار الآداب، عنوان يختصر عزلة مدينة محاصرة، تمارَس عليها جميع أشكال الظلم الإنساني وأكثرها فظاعة في التاريخ، وغياب أبسط أشكال التواصل الإنساني، فلا رسائل تصل ولا كلمات تستطيع التعبير، وكأن غزة تُركت لتواجه مصيرها وحيدة، "محاطة بالأمل والأعداء" كما قال محمود درويش . مما يجعل من الرواية نفسها رسالة تفتح أفقا واسعا حول الحياة والموت والقدر، وحلم النجاة في مكان تغمره الوحشية ويطارده الخراب.
في هذه الرواية يروي محمد جبعيتي حكاية شاب غزي مولع برياضة الباركور، يجد نفسه مجبرا على العمل حفارا للقبور مثل والده. ومن خلال هذه المفارقة بين القفز على الأسطح والحفر في الأرض، أراد الكاتب أن يقول "إن الفلسطيني يعلو بالأحلام إلى أن يلامس السماء، لكن واقعه الأليم يشده إلى الأرض" لتأتي الرواية مزيجا بين الواقعية السحرية والخرافات الشعبية والتراجيديا العائلية، وتعيد بذلك بناء مشهد الحياة الغزية قبل حرب الإبادة: أفراح الناس الصغيرة، قصص الحب المبتورة، الأمل الذي يطل برأسه وسط الركام، والرعب اليومي الذي يفرضه الاحتلال.
بهذا المعمار السردي، يكتب محمد عن غزة كمن يرسل، في غياب البريد، رسالة طويلة لا تحتاج طابعا كي تصل.
عن رواية "لا بريد إلى غزة"، وعن مسيرته الإبداعية كان للجزيرة نت هذه المقابلة مع محمد جبعيتي:
نشأت في بيت لا يقرأ، لكنني كنت محاطا بالطبيعة وبحكايات الناس. لم تنقذني الكتب من الاحتلال أو الحصار، لكنها منحتني لغة أعبّر بها عن حزني وأتواصل مع من رحلوا وكأنهم لا يزالون جالسين أمامي. بدأ وعيي يتفتح خلال الانتفاضة الأولى ، ولم أجد أمام الرعب اليومي سوى الكتب التي منحت حياتي معنى. كانت الكتب ملجئي الأول وصوتي في وجه الظلم.
في إيطاليا، حيث درست الكيمياء الحيوية، تعلمت أن التفاصيل تصنع الفارق. خطأ بسيط في المختبر يفسد التجربة ، كما أن كلمة في غير موضعها تخلخل إيقاع النص. منذ ذلك الوقت، صرت أرى الرواية مثل تركيب كيميائي حساس، يحتاج إلى توازن دقيق بين العناصر، وإلى وقت كاف لينضج.
علمني التعليم كيف أصغي بعمق للحكايات المختبئة خلف وجوه الناس ونظراتهم. فهمت أن الإنسان يحمل في داخله تعقيدات وصمتا وألما لا يظهر دائما بالكلمات. أما الصحافة، فقد دربتني على التقاط المشاهد بسرعة، وتكثيف الأحداث في كلمات واضحة وقوية دون إهدار. التعليم والصحافة ليسا مجرد مهنتين، بل أداتين لفهم الإنسان بأبعاده المختلفة، وهذا الفهم هو الوقود الحقيقي الذي يغذي كتابتي الروائية ويمنحها صدقها.
بينما حملتْ الأجيال السابقة أعباء الرواية الوطنية الكبرى، ركزنا نحن على التفاصيل الصغيرة. نكتب عن حياة الفلسطيني بكل تناقضاتها اليومية، حيث الحب يتفتح رغم الحصار والقيود. الموت هنا ليس حدثا استثنائيا، بل جزءا من الواقع اليومي الذي يتعايش معه الناس. هذا الواقع القاسي لا يمنعنا من التمسك بالحياة، بل يدفعنا للبحث عن أمل جديد رغم كل الصعوبات.
في كتاباتنا، نسعى لتصوير التشظي والانكسار الذي يعيشه الفرد الفلسطيني، لكننا أيضا نرسم صورة للحياة التي تستمر رغم مرارة الواقع. تبقى الكتابة نافذتنا للحلم. نكتب لنقاوم النسيان، ونمنح صوتا لمن أسكتهم الموت.
لا أرى في الكتابة ترفا، بل ضرورة. أكتب كي لا أتآكل، وكي أبقي الحكايات حية. أكتب لأن الصمت لا يكفي، ولأن اللغة، بكل ما فيها من هشاشة وقوة، هي وسيلتي الوحيدة للنجاة، ولإعادة تشكيل العالم
لا أرى في الكتابة ترفا، بل ضرورة. أكتب كي لا أتآكل، وكي أبقي الحكايات حية. أكتب لأن الصمت لا يكفي، ولأن اللغة، بكل ما فيها من هشاشة وقوة، هي وسيلتي الوحيدة للنجاة، ولإعادة تشكيل العالم. أريد للقارئ أن يشعر بالسياسة دون أن يقرأ خطابا سياسيا. الذاكرة هنا مثل الملح في الطعام؛ غيابها يفسد المذاق، لكن زيادتها تفسد الطبق.
السخرية بالنسبة لي ليست مجرد وسيلة لتخفيف الألم أو استفزازه، بل طريقة لاختبار هشاشة المأساة أمام قدرتنا على الضحك. كما يقول كونديرا، حين نضحك على مصائبنا نحرر أنفسنا منها. السخرية في فلسطين أحيانا هي آخر خطوط الدفاع عن العقل.
أردت أن أقول إن الفلسطيني يعلو بالأحلام حتى يلامس السماء، لكن واقعه الأليم يشده إلى الأرض، وأحيانا تحتها. الباركور يمثل الحرية القصوى، بينما في حفر القبور ملامسة القدر في أكثر أشكاله حتمية. بين القفز والحفر يعيش البطل، كما يعيش الفلسطيني بين التطلع للمستقبل والانشغال بدفن الحاضر.
مواجهة الموت تمنح نوعا من التصالح، لكنها أيضا تترك ندوبا غير مرئية. حين ترى الموت كل يوم، لا تعود تخافه بالطريقة التي يخافه بها الآخرون، كما تدرك أن الحياة هشة، وأن كل لحظة تستحق أن تعاش.
الرواية تمنح وجوها وأسماء لأولئك الذين يُختزلون في تقارير إعلامية أو عناوين سياسية. أما بالنسبة للقارئ العربي، فإن الرواية تحثه على العودة إلى جذور القضية الفلسطينية، لا بوصفها صراعا بعيدا أو قضية سياسية فقط، بل قضية إنسانية تمس كرامة الإنسان العربي ووجوده
نقل المعاناة من إطار الأرقام والأخبار العاجلة إلى حكاية إنسانية حية. الرواية تمنح وجوها وأسماء لأولئك الذين يُختزلون في تقارير إعلامية أو عناوين سياسية. أما بالنسبة للقارئ العربي، فإن الرواية تحثه على العودة إلى جذور القضية الفلسطينية، لا بوصفها صراعا بعيدا أو قضية سياسية فقط، بل قضية إنسانية تمس كرامة الإنسان العربي ووجوده. أما القارئ العالمي، فالرواية تخاطب ضميره، وتدفعه لإعادة النظر في الرواية الرسمية التي طالما هيمنت على وسائل الإعلام الدولية.
وفي هذا السياق، يبرز دور الكاتب الفلسطيني بوصفه شاهدا ومؤرخا وناقلا للحقيقة، ولكن ليس فقط من موقع التوثيق، بل من موقع إعادة تشكيل الوعي والذاكرة الجمعية. الكلمة، رغم تواضعها أمام الطائرات والدبابات، إلا أنها تملك القدرة على أن تخلخل الصمت، وتوقظ الضمير، وتحفظ الذاكرة من النسيان.